تعديل

الشيخ محمد سعيدباصالح

الجمعة، 27 فبراير 2015

خطبة ( احفظ الله يحفظك )

احفظ الله يحفظك
[ 9/5/1436هـالموافق 27/2/2015م ]
الخطبة الأولى

أيها المسلمون، همس النبي صلى الله عليه وسلم في أذن ابن عباس همسة ففال: " يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظِ الله يحفظك "..
كلمة سارت بها الركبان، وحفظها الزمان، وتداولها العلماء الأعلام بالشرح والبيان.. " احفظ الله يحفظك "..
كم تحت هذه الكلمة من المعاني! وكم فيها من ينابيع الحكمة! يا لها من كلمة في طيها آلاف القصص والعبر والمعاني، وآلاف النماذج والأمثال؛ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..
فما معنى احفظ الله؟
قال العلماء معناها: احفظ حدودَ الله، وحقوقَه، وأوامرَه، ونواهيَه.. فقف عند أمرِه بالامتثال، وعند نهيِه بالاجتنابِ، وعندَ حدوده بالخشية، فلا تتجاوز ما أمرك به، وأذن لك فيه إلى ما نهاك عنه.. فمن فعل ذلك فهو مِنَ الحافظين لحدود الله الذين مدحهمُ الله في كتابه، قال عز وجل: ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامرِ الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها.
ومن أعظم ما يجبُ حِفظُه من أوامر الله الصَّلاةُ، وقد أمر الله بالمحافظة عليها، فقال: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ﴾ ومدح المحافظين عليها بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾. وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن، كان له عندَ الله عهدٌ أنْ يُدخِلَه الجنَّة "، وفي حديثٍ آخرَ: " من حافظ عليها، كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة ".
وكذلك الطهارة، فإنَّها مفتاحُ الصلاة، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " لا يُحافِظُ على الوضوء إلاَّ مؤمن ".
وممَّا يُؤمَر بحفظه الأيمانُ، قال الله عز وجل: ﴿ واحْفَظوا أَيْمَانَكُم ﴾، فإنَّ الأيمان يقع الناس فيها كثيرًا، ويُهْمِل كثيرٌ منهم ما يجب بها، فلا يحفظه، ولا يلتزمه. ومن ذلك حفظُ الرأس والبطن كما في حديث ابن مسعود المرفوع: " الاستحياءُ من الله حَقَّ الحياء: أنْ تَحْفَظَ الرأس وما وَعَى، والبطنَ وما حوى ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ". وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظُ السَّمع والبصر واللسان من المحرمات، وحفظُ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عَنِ الإصرار على محرم قال الله عز وجل: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ﴾، وقد جمع الله ذلك كُلَّه في قوله: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾. ويتضمن أيضاً حفظُ البطنِ من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب.
ومِنْ أعظم ما يجبُ حفظُه من نواهي الله عز وجل: اللسانُ والفرجُ، وفي حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال: " مَنْ حَفِظَ ما بَينَ لَحييه، وما بَينَ رِجليهِ، دَخَلَ الجنة ". وأمر الله عز وجل بحفظ الفروج، ومدحَ الحافظين لها، فقال: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾، وقال: ﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾، وقال: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُون ﴾ إلى قوله: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " يحفظْك " يعني: أنَّ من حفظَ حدود الله، وراعى حقوقَه، حفظه الله، فإنَّ الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾، وقال: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾، وقال: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾.
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان: أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله عز وجل: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ﴾، قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونَهُ بأمرِ الله. وفي الحديث:" لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هؤلاء الدَّعوات حين يُمسي وحين يُصبح: اللهمّ إني أسألُكَ العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنِّي أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهمَّ استُر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذُ بعظمتك أنْ أُغتَالَ من تحتي ". ومَنْ حفظ اللهَ في صباه وقوَّته، حفظه الله في حال كبَره وضعفِ قوّته، ومتَّعه بسمعه وبصره وحولِه وقوَّته وعقله. كان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتَّعٌ بقوَّتِه وعقله، فوثب يومًا وثبةً شديدةً، فعُوتِبَ في ذلك، فقال: هذه جوارحُ حفظناها عَنِ المعاصي في الصِّغر، فحفظها الله علينا في الكبر. وقد يحفظُ الله العبدَ بصلاحه بعدَ موته في ذريَّته كما قيل في قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحًا ﴾: أنَّهما حُفِظا بصلاح أبيهما.
النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظُ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المُضِلَّة، ومن الشهوات المحرَّمة، ويحفظ عليه دينَه عندَ موته، فيتوفَّاه على الإيمان. وفي " الصحيحين " عن البراء بن عازب، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه أمره أنْ يقولَ عندَ منامه: " إنْ قبضتَ نفسي فارحمها، وإنْ أرسلتَها فاحفظها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين ". فالله عز وجل يحفظُ على المؤمن الحافظ لحدودِه دينَه، ويحولُ بينَه وبين ما يُفسد عليه دينَه بأنواعٍ مِنَ الحفظ، وقد لا يشعرُ العبدُ ببعضها، وقد يكونُ كارهاً له، كما قال في حقِّ يوسُف: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كانت امرأة في بيت فخرجت في سرية من المسلمين وتركت ثنتي عشرة عنزة وصِيصِيَّتِها كانت تنسج بها، قال: ففقدت عنزة لها وصيصيتها، فقالت: يا رب إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه وإني قد فقدت عنزًا من غنمي وصيصيتي، وإني أَنشُدُك عنزة لي وصيصيتي، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شدة مناشدتها ربَّها تبارك وتعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأصبحت عنزُها ومثلُها وصيصيتُها ومثلها " والصيصية: هي الصنارة التي يغزل بها وينسج.
فمن حفظ الله حفظه الله من كل أذى قال بعض السلف من اتقى الله فقد حفظ نفسه ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه والله غنى عنه ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى كما جرى لسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها فركبت لوحا من ألواحها، فطرحني اللوح في أجَمة فيها الأسد فأقبل إليَّ يريدني فقلت: يا أبا الحارث، أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطأطأ رأسه وأقبل إليَّ فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووضعني على الطريق, وهَمْهم, فظننت أنه يودعني، فكان ذلك آخر عهدي به. 
وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نم فالحوادث كلهن أمانُ
وهذا أبو مسلم الخولاني سيد التابعين وزاهد عصره، كان في زمن الكذاب الأسود العنسي الذي أخذ يلزم الناس إلزاما بأن يشهدوا بأنه نبي من عند الله، ومن لا يفعل جزاؤه القتل، وكان أبو مسلم الخولاني ممن وقع تحت هذا الامتحان الصعب فاستدعاه الكذاب وقال له: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول من عند الله؟! قال: ما أسمع شيئًا! فردها عليه وهو يقول ما أسمع شيئًا! فغضب غضبًا شديدًا فجمع الناس وقال: أيها الناس إن كان هذا على الحق فسينجيه الحق، وان كان على الباطل فسترون ماذا يفعل الله به، ثم أمر بنارٍ عظيمة فأُوقِدت ثم ربّط أبا مسلم الخولاني بالأربطة، فأرادوا أن يقذفوه في النار فلم يستطيعوا أن يقتربوا منها؛ من هولها وحرِّها، فجعلوه على المنجنيق ثم قذفوا به عن بُعدٍ، فوقع في النار، ثم خرج منها يمشي على رجليه، وما أصابته بأذى! فقال له الأسود الكذاب: اخرج من اليمن إلى أي أرض الله شئت.. فخرج إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يصلي صلاة لم يُرَ أحسنَ منها، فأخذ الناس يتحدثون عن رجل في المسجد يصلي صلاة عجيبة فسمع عمر بذلك وأتى ليرى من هذا الذي يتحدث الناس عنه، فوجده يصلي، فلما انتهى من الصلاة فال له: ممّن الرجل؟ فقال: من أهل اليمن. فقال: ما خبرُ صاحبنِا الذي أراد الكذاب أن يُحرّقه قال: ذاك (عبدالله بن ثوب ) فقال: نشدتُك الله، أنت هو؟ قال: اللهم نعم. فاعتنقه عمر وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصديق. فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من صنع به كما صنع بإبراهيم الخليل.. حفظوا الله فحفظهم وأحبوا الله فأحبهم وآثروا الله فآثرهم.. والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More