تعديل

الشيخ محمد سعيدباصالح
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الخطب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الخطب. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 1 فبراير 2019

حديث أم زرع

حديث أم زرع ٢٦|٥|١٤٤٠هـالموافق ١|٢|٢٠١٩م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون.. (عن عائشة رضي الله عنها قالت: جلست إحدى عشرةَ امرأةً، فتعاهدْنَ وتعاقدْنَ أن لا يكتُمن من أخبار أزواجهن شيئًا. قالت الأولى: زوجي لحمُ جملٍ غَث) أي مهزول (على رأس جبلٍ وعر) أي لا يوصل إليه إلا بتعب ومشقة (لا سهلٍ فيرتقَى ولا سمينٍ فينتقَل) أي ليس بسمين يرغب الناس فيه ويتناقلونه إلى بيوتهم. وصفَتْ زوجها بقلة الخير وسوء الخلق والكِبْر والتِيه على أهله. (قالت الثانية: زوجي لا أبُثُّ خبره) أي لا أنشر خبره كيلا يفتضح (إني أخاف أن لا أذره) أي أخاف أن لا أتوقف عن الكلام لكثرة عيوبه (إن أذكره أذكر عُجَرَه وبُجَرَه) أي عيوبَه الباطنة وأسراره. وصفت زوجها بكثرة العيوب الظاهرة والباطنة. (قالت الثالثة: زوجي العَشَنَّق) وهو الشرس الطويل المفرط الطول الضعيف العقل فهو طويل بلا فائدة (إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق) وصفت زوجها بالطول المفرط مع سوء الخلق وقلة النفع والفائدة. (قالت الرابعة: زوجي كلَيل تهامة، لا حَرَّ ولا قُر، ولا مخافةَ ولا سآمة) أي لا حر ولا برد ولا خوف ولا ملل. وصفت زوجها بحسن الخلق ودوام الأمن معه والسلامة من الأذى. (قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهِد، وإن خرج أسِد، ولا يسأل عما عهِد) فشبَّهتْ زوجها بالفهد في لين الجانب؛ لأن الفهد لين المس كثير السكون، وبالأسد في الشجاعة وهو مع ذلك كريم لا يسأل عما ترك بالبيت من زاد وطعام. وصفتْ زوجها باللين والكرم والتغافل وقلة العتاب مع الشجاعة المفرطة. (قالت السادسة: زوجي إن أكل لَفّ) أي: ضم وخلط صنوف الطعام بعضها ببعض (وإن شرب اشتَف) أي استقصى ولم يترك شيئًا (وإن اضطجع التَفّ) أي ينام ناحيةً ملتفًّا بثوبه، لا يضاجعني ولا يتحدث معي (ولا يولج الكفَّ ليعلم البثَّ) أرادت لا يدخل يده في أموري ليعرف ما أكرهه ويصلحه -. وصفت زوجها بكثرة الأكل والشرب والأنانية وقلة الشفقة والإهمال العاطفي.   (قالت السابعة: زوجي عياياء) من العِي وهو العجز والحُمْق (أو غياياء) وهو العاجز الذي لا يهتدي لأمر كأنه في ظلمة (طباقاء) وهو الأحمق الذي انطبقت عليه الأمور فلا يهتدي إلى الخروج منها (كل داءٍ له داء) أي العيوب المتفرقة في الناس مجتمعه فيه (شجَّكِ أو فلَّكِ، أو جمعَ كلًّا لكِ) والشج: الجرح في الرأس والوجه، والفَلّ: الكسر. وصفت زوجها بالعجز والحمق وضعف البصيرة والعنف المفرط والقسوة. (قالت الثامنة: زوجي المسُّ مسُّ أرنب، والريح ريح زَرنَبٍ) أي هو مثل الأرنب في اللين وحسن الخلق ومثل نبات الزرنب في طيب الرائحة. وصفت زوجها بلين الجانب وحسن الخلق وطيب الرائحة والعناية بالنظافة. (قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد) كنّتْ بارتفاع عمود خيمته عن شرفه وارتفاع بيته (عظيم الرماد) كنَّتْ بكثرة الرماد عن الكرم والجود وكثرة الضيوف الذين ينتابون بيته وكثرة ما يطبخ في داره من أنواع الأطعمة (طويل النجاد) كنّتْ بطول حمالة سيفه عن امتداد قامته وحسن منظره (قريب البيت من الناد) والنادي والمنتدى: مجلس القوم ومجتمعهم، كنّتْ بقرب بيته من مجلس القوم عن مكانته الاجتماعية وشهرته. وصفت زوجها بطول القامة وجمال المنظر والفروسية والشجاعة والجود والكرم والشرف والمكانة الاجتماعية. (قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك!) أرادت به تعظيمه والتعجب من أمره (مالك خير من ذلك) أي: هو فوق ما يوصف به من الجود والأخلاق الحسنة (له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح) أي أنه يتركها تبرك بفنائه لتكون معدة للضيفان فيطعمَهم من لحومها وألبانها، وقلَّ ما يسرِّحها لئلا يتأخر القِرى لبُعدها (إذا سمِعنَ صوت المـِزْهَر أيقَنَّ أنهن هوالِك) والمِـزهَر: آلة من آلات اللهو، والمقصود أن إبله قد اعتادت منه إكرام الضيفان بالنحر لهم وبسقيهم وإتيانهم بالمعازف، فإذا سمعتْ صوت المعازف أيقنتْ بالنحر. وصفت زوجها بالجود والكرم وكثرة المال والأخلاق الحسنة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون.. (قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع، فما أبو زرع! أناس من حُلِيٍّ أُذُنَيَّ) أي حرّك أذني بما حلاهما به من القِرَطة (وملأ من شحمٍ عَضُدَيَّ) أي سمَّنَنِي بحسن التعهد (وبجَّحني فبجِحتْ إليَّ نفسي) أي عظَّمني فعظُمتُ عند نفسي (وجدني في أهل غُنَيمةٍ بشِق) أي في مشقة وفقر (فجعلني في أهل صهيلٍ، وأطيطٍ، ودائسٍ ومُنِقٍ) والدائس: الذي يدوس الطعام بعد الحصاد، والمنق: وهو الغربال. والمقصود أني كنت في قومٍ قليلي العدد والمال، فلم يأنف من فقر قومي وضعفهم، فنكحني ونفاني إلى قومه، وهم أهل خيل وإبل وزروع، والصهيل: صوت الخيل، والأطيط: صوت الإبل (فعنده أقول فلا أقبَّح) أي لا يُرد قولي ولا يقال لي: قبَّحَكِ الله (وأرقد فأتصبَّح) والتصبح: نوم الصُّبحة، وهو أن تنام بعدما تصبح، تريد أنها مخدومة مَكفِيَّة المؤنة لا تحتاج إلى البكور (وأشرب فأتقمَّح) أي أرفع رأسي عن الإناء للرِّي والاستغناء عن الشرب. (أم أبي زرعٍ فما أم أبي زرع! عكومها رداح، وبيتها فساح) والعكوم: الأحمال والأعدال التي فيها الأمتعة، رداح: أي عظيمة ممتلئة، وبيتها فساح أي واسع. وصفتْ أمَّ زوجها بالغنى والرفاهية والجود والسخاء والعناية بالبيت. (ابنُ أبي زرعٍ فما ابن أبي زرع! مضجعه كمِسَلِّ شطبة)ٍ أي كشطبة مسلولة، والشطبة: ما ينزع من القضبان الدقاق من جريد النخل، ينسج منها الحُصُر أو هو كالسيف المسلول (ويشبعه ذراع الجفرة) وهي الماعز إذا بلغت أربعة أشهر وفصلت وأخذت في الرعي. وصفتْ ابنَ زوجها بقلة الطعام والشراب وخفة الجسم وهو محمود عند العرب. (بنت أبي زرعٍ، فما بنت أبي زرعٍ! طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها) أي تملأه بكثرة اللحم (وغيظ جارتها) أي يغيظ ضرتها ما ترى من جمالها وعفتها. وصفتْ بنت زوجها بالسِّمن والرخاء والرفاهية والجمال والأخلاق والعفة. (جاريةُ أبي زرعٍ، وما جارية أبي زرع! لا تبث حديثنا تبثيثًا) أي لا تنشر أخبار البيت وتذيعها (ولا تنقِّثُ ميرتنا تنقيثًا) أي لا تنقل طعامنا وتسرع فيه بالخيانة ولا تغفل عنه فيفسد (ولا تملأ بيتنا تعشيشًا) أي أنها تهتم بالبيت وترتبه ولا تترك القمامة مرمية هنا وهناك. وصفتْ جارية زوجها بكتم السر والأمانة وحسن التدبير وتعهد الطعام والمحافظة عليه وترتيب البيت والعناية به والاهتمام بالنظافة. ووصفتْ زوجها بالغنى وكثرة المال وجمال الأخلاق وحسن العشرة وكمال الأدب وتقدير المرأة وبر الوالدة والعناية بالأولاد.. (قالت: خرج أبو زرعٍ والأوطاب تمخض) والأوطاب جمع وطْب وهو سقاء اللبن، وتمخض: أي تحرك لاستخراج الزُبْد (فلقي امرأة معها ولدان كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلًا سريًا) أي شريفا (ركب شريًا) وهو الفرس الفائق المختار (وأخذ خطيًا) وهو الرمح (وأراح علي نَعَمًا ثريًا) أي كثيرة (وأعطاني من كل رائحةٍ زوجًا!) أي من كل ماشية صنفًا (وقال: كلي أم زرعٍ وميري أهلك). وصفتْ زوجها الثاني بكثرة المال والمكانة الاجتماعية والشجاعة والجود لكنها لم تصفه بحسن الخلق.. (قالت: فلو جمعتُ كلَّ شيءٍ أعطانيه، ما بلغ أصغر آنية أبي زرع!) فيه أن الناس تبحث عن الخلق أكثر مما تبحث عن المال. (قالت عائشة: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كنتُ لك كأبي زرعٍ لأم زرعٍ) بأبي أنت يا رسول وأمي! بل أنت خير من أبي زرع ومن ألف أبي زرع. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 25 يناير 2019

بر الوالدة

بِر الوالدة ١٩|٥|١٤٤٠هـالموافق ٢٥|١|٢٠١٩م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، قال الله تبارك وتعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهذه وصية الله إليك أيها الإنسان.. فاجتهد في بر والديك والإحسان إليهما بالقول والعمل، فإن أمراك بالإشراك بالله فلا طاعة لهما في هذا الأمر، ويلحق بالشرك سائر المعاصي، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لأن حق الله أعظم من حق المخلوق. وللأم زيادة في البر؛ لأنها حملت ولدها وهنًا على وهن وحمله وفصاله في عامين.. فقد عانت من آلام الحمل والولادة والرضاع والفطام فحق لها أن يكون لها من البر أضعاف ما للأب.. عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: " يا رسول الله، مَن أبِرُّ؟ قال: أمَّك قلت: مَن أبِرُّ؟ قال: أمَّك قلت: من أبِرُّ؟ قال: أمَّك قلت: مَن أبِرُّ؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب ". وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بحُسن صحابتي؟ قال: أمّك. قال: ثم مَن؟ قال: ثم أمُّك. قال: ثم مَن؟ قال: ثم أمُّك. قال: ثم مَن؟ قال: ثم أبوك ". وعن عطاء بن يسار عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أتاه رجلٌ فقال: " إني خطبتُ امرأةً فأبتْ أن تَنكِحَني وخطبها غيري فأحبّت أن تَنكِحَه فغِرْتُ عليها فقتلتُها فهل لي من توبة؟ قال: أمُّك حيَّة؟! قال: لا قال تب إلى الله عز وجل وتقرَّب إليه ما استطعتَ قال عطاء: فسألتُ ابنَ عباس: لمَ سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملًا أقربَ إلى الله عز و جل من بر الوالدة! ". وعن طَيْسَلةَ بنِ ميَّاس قال: " كنت مع النَّجَدات - وهم فرقة من الخوارج - فأصبتُ ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر - يعني من شدة الغلو الذي عندي - فذكرتُ ذلك لابن عمر، قال: ما هي؟ قلت: كذا وكذا قال: ليست هذه من الكبائر! هن تسع: الإشراك بالله، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإلحاد في المسجد، والذي يستسخر، وبكاءُ الوالدين من العقوق. قال لي ابن عمر: أتَفرَقُ من النار وتحبُ أن تدخلَ الجنة؟ - يعني هل تخاف من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ - قلت: إي والله! قال: أحيٌّ والداك؟! قلت: عندي أمي. قال: فو الله! لو ألنتَ لها الكلام، وأطعمتَها الطعام، لتدخُلَنَّ الجنة ما اجتنبت الكبائر ". وعن سعيد بن أبى بُردة قال سمعتُ أبي يحدِّث: " أنه شهِدَ ابن عمر رجلًا يمانيًا يطوف بالبيت حَمَلَ أمَّه وراء ظهره يقول: إني لها بعيرُها المذلَّلْ * إن أُذعِرَتْ ركِابُها لم أُذعَرْ! ثم قال: يا ابن عمر، أتُراني جزيتُها؟! قال: لا ولا بزفرة واحدة! ". أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، دعوة الوالد على ولده مستجابة فلا تدعوا على أولادكم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاث دعوات مستجابات لهن لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولدهما ". وعن محمد بن شرحبيل أخي بني عبد الدار عن أبى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما تكلم مولود من الناس في مهد إلا عيسى ابن بن مريم صلى الله عليه وسلم وصاحب جريج قيل: يا نبي الله, وما صاحب جريج؟ قال: إن جُرَيجًا كان رجلًا راهبًا في صومعة له، وكان راعي بقر يأوي إلى أسفل صومعته، وكانت امرأةٌ من أهل القرية تختلف إلى الراعي - يعني تزني معه - فأتت أمُّه يومًا فقالت: يا جريج. وهو يصلي فقال في نفسه وهو يصلي: أمي وصلاتي! فرأى أن يؤثر صلاته ثم صرخت به الثانية فقال في نفسه: أمي وصلاتي! فرأى أن يؤثر صلاته ثم صرخت به الثالثة فقال: أمي وصلاتي! فرأى أن يؤثر صلاته فلما لم يجبها قالت: لا أماتك الله يا جريج حتى تنظر في وجه المـُومسات! - تعني الزانيات - ثم انصرفت فأتِي الملِك بتلك المرأة ولدت، فقال: ممَّن؟ قالت من جريج. قال: أصاحب الصومعة؟! قالت: نعم. قال: اهدموا صومعته وأتوني به, فضربوا صومعته بالفؤوس حتى وقعت، فجعلوا يده إلى عنقه بحبل! ثم انطلِقَ به فمر به على المـُومِسات! فرآهن فتبسم، وهن ينظرن إليه في الناس، فقال الملِك: ما تزعم هذه؟! قال: ما تزعم؟! قال: تزعم أن ولدها منك! قال: أنتِ تزعمين؟! قالت: نعم. قال: أين هذا الصغير؟ قالوا: هو ذا في حِجرها فأقبل عليه فقال: مَن أبوك؟ قال: راعي البقر. قال الملك: أنجعل صومعتك من ذهب؟! قال: لا. قال: من فضة؟ قال: لا. قال: فما نجعلها؟ قال: ردوها كما كانت. قال: فما الذي تبسمتَ؟ قال: أمرًا عرفتُه. أدركَتْني دعوةُ أمي! ثم أخبرهم.. ". ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 4 يناير 2019

الطلاق مرتان

الطلاق مرتان ٢٨|٤|١٤٤٠هـالموافق ٤|١|٢٠١٩م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، الطلاق مرتان ثم الزوج بالخيار بين أن يمسكَ المرأة بمعروف أو يسرحَها بإحسان.. وما دام الطلاق رجعيًا واحدة أو اثنتين فللزوج مراجعتها ما دامت في العدة من غير رضاها ولا رضا وليِّها.   فإن طلقها الثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره - نكاح رغبة لا نكاح تحليل - ويدخل بها ثم تبين منه بوفاة أو طلاق وتنقضي عدتها منه ثم إن شاءت عادت للأول. وأحكام الطلاق مبيَّنة في الكتاب والسنة.. لكننا نشهد بين الحين والآخر حالات من الطلاق الغريب الدال على الاستهتار بالرابطة الزوجية والاستخفاف بالأحكام الشرعية.. يطلق الرجل لأتفه الأسباب ويطلق ويراجع بلا حساب ويهدد بالطلاق عند كل غضبة قائلًا: إن دخلتِ فأنتِ طالق! أو إن خرجتِ فأنت طالق! أو يعلق الطلاق بجميع الأحوال فيقول: إن صعدتِ فأنتِ طالق وإن نزلتِ فأنتِ طالق وإن وقفتِ فأنتِ طالق! وآخر كلما غضب قال لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أمي أو أنتِ عليَّ حرام.. ثم إذا صدر منه الطلاق المنجَّز أو المعلَّق راح يسأل المفتِين، وإذا لم تعجبه فتوى ابنِ عمر سلكَ طريقَ ابنَ عباس! إن ابن عباس لا يستطيع أن يحلّلَ لك ما حرَّم اللهُ عليك.. عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاَثًا. قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ رَادُّهَا إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْحَمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)) وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ أَجِدْ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ. الزواج - أيها الناس - مسئولية عظيمة, والمرأة تحل بكلمة، وتحرم بكلمة، والمسألة ليست لُعبة.. والطلاق مرتان وليس سبعين مرة! وبعد الطلقتين إما وفاق واتفاق وإمساك بمعروف، أو طلاق وفراق وتسريح بإحسان. وبعض الناس يطلق ويعتذر فيقول: طلقتُ وأنا غضبان! يريد أن الغضب لا يمنع الطلاق.. وهو عذرٌ غريب! وهل يطلق إنسان وهو فرحان! إذا غضبتَ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. وبعض الناس يظن أن التهديد بالطلاق يوجب له المهابةَ في البيت، والرهبةَ والمخافة، والسمعَ والطاعة، ولا يدري المسكين أنه بذلك كسر القارورة، ولا يمكنه جبرُها بعد كسرها، فالقوارير لا تقبل التضبيب لا بالذهب ولا بالفضة. فعليكَ - أخي الكريم – بالرفق، وجميلِ القول والفعل، والصبرِ والحلم، والعفو والحكمة، وضعِ الحلولَ والمعالجاتِ المناسبةَ للمشاكل، وتجنب الغضبَ والانفعالَ، وإياك والطلاقَ فإنك تندم حيث لا ينفع الندم؛ فكم من إنسان طلّق في لحظة غضب ثم ندم، ولاتَ ساعةَ مندم! وترتب على طلاقه أن تفرقت الأسرة شذَرَ مذَرَ وذهبوا أيدي سبأ.. فليتقِ اللهَ كلُّ مسلم، ولا يتخذْ آياتِ الله هزوا.. قال الله عز وجل: ((وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، أكثرُ حالات الطلاق بسبب الغضب والانفعال، وبعض النساء إذا غضب زوجها غضبت معه، وزادت النارَ اشتعالًا، فإذا نطق حرفًا قالت بيتًا، وإذا قال كلمة ًأنشدت قصيدة، وينتهي الأمر بالطلاق، فيسكنُ الغضب، وينقلبُ الشيطانُ فرحانَ جذِلًا بما أوقعه من الفتنة.. عَنْ جَابِر بن عبد الله رضي الله عنهماٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ! وفي رواية: ((فَيَلْتَزِمُهُ)).. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 9 نوفمبر 2018

أفلا تتفكرون

((أفلا تتفكرون)) ١|٣|١٤٤٠هـالموافق ٩|١١|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، أمر الله تبارك وتعالى بالتفكر في آياته المنزلة من السماء وآياته المبثوثة في الكون وأخبر أن آياته الكونية وآياته المنزلة لا ينتفع بها إلا أصحاب العقول الكاملة الذي أعملوا عقولهم في الآيات البينات ودلائل القدرة في السموات والأرض فقال تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) وقال تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) وقال تعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)) وقال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ)). وشنَّع الله على أولئك الذين عطَّلوا عقولهم وبصائرهم وأفكارهم فلم يستدلوا بها على خالقهم ورازقهم سبحانه، ولم ينتفعوا بما يشاهدونه من آيات الله سبحانه في الآفاق وفي الأنفس، ولم يتدبروا آياته المتلوة وما فيها من النور والهدى والشفاء فقال تعالى: ((وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)) وقال تعالى: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)) وقال تعالى: ((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ)) وقال تعالى في الحث على إعمال العقل في تدبر القرآن: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) وقال: ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ)). والله تعالى يدعو عباده إلى التعرف على أسمائه وصفاته وآثارها عن طريق النظر في آيات الله المشاهدة في الآفاق والأنفس وما فيها من العظمة والحكمة والرحمة والإتقان وعن طريق النظر في آياته المتلوة في كتابه العزيز كما قال تعالى: ((كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)) وقال تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)). ومجالات التفكر  كثيرة جدًا.. منها التفكر في الآيات المتلوة قال تعالى: ((لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)). ومنها التفكر في آيات الله في الآفاق قال تعالى: ((وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)). ومنها التفكر في الإنسان وخلقه قال تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)). ومنها التفكر في آلاء الله ونعمه قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)). ومنها التفكر في سير الأنبياء مع أقوامهم قال تعالى: ((فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) وقال تعالى: ((وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)) وقال تعالى: ((وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ)) وقال تعالى: ((إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)) وقال تعالى: ((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)). ومنها التفكر في النفس ومحاسبتِها ومدى قبولها للحق والنظر فيما قدّمت وأخّرت من الخير والشر قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) وقال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)) وقال تعالى: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)) وقال تعالى: ((وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)). ومنها التفكر في الدنيا والآخرة وحقيقة كل منهما قال تعالى: ((كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) وقال تعالى: ((وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) وقال تعالى: ((إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)). ومنها التفكر في آيات الله الخارقة قال تعالى: ((فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) وقال تعالى: ((فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)) وقال تعالى: ((فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)) وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ((ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)). وقال الحسن البصري: ((تفكر ساعة خير من قيام ليلة )). وقال ابن عباس: ((ركعتان مقتصدتان في تفكُّر خيرٌ من قيام ليلة والقلبُ ساهٍ)). وعن أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز أنه بكى يومًا بين أصحابه، فسُئل عن ذلك، فقال: فكّرتُ في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرتُ منها بها، ما تكاد شهواتنا تَنْقَضي حتى تكدِّرَها مرارتُها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظَ لمن ادَّكر. وعن سلام قال: أُتي الحسن بِكُوزٍ من ماء ليفطر عليه، فلما أدناه إلى فيه بكى، وقال: ذكرتُ أمنيةَ أهل النار؛ قولَهم: ((أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ)) وذكرتُ ما أُجِيبوا: ((إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)). نعوذ بالله من حال أهل النار.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 2 نوفمبر 2018

اقتناص الفرص

اقتناص الفرص ٢٤|٢|١٤٤٠هـالموافق ٢|١١|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، الحياة فرص، وأعظم فرصةٍ في الدنيا فرصةُ الإيمان والعمل الصالح.. فرصةُ الدين واليقين.. فرصة التزود من الباقيات الصالحات.. فرصة الفوز برضا الرحمن الرحيم مالك يوم الدين.. فرصة أن يكون الله ورسوله أحب إلى المرء مما سواهما.. فمن الناس من حاز تلك الفرصة فأسلم وجهه وقلبه لله واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ففاز وذلك الفوز العظيم، ومن الناس من سفه نفسه وأضاع حظه فكفر بأنعم الله وغمس نفسه في الضلالات ونسي الله فنسيه الله حتى وافاه الأجل وجاءت سكرة الموت بالحق فخسر الدنيا والآخرة.. خسر نفسه وأهله ألا ذلك هو الخسران المبين.. ولا تزال تعرض للإنسان في حياته فرص، فرصة العلم النافع والإيمان الصادق، وفرصة التوبة والإنابة، وفرصة الصدقة في الأزمات، وفرصة كفالة الأيتام، وفرصة الصلاة وكثرة السجود، وفرصة الإكثار من قراءة القرآن وذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وقد تأتي الإنسان في حياته فرص نادرة لا تكاد تعود مرة أخرى فمن كان همه الآخرة تذكر لقاء الغفار ودار القرار وصحبة سيد الأخيار والأنبياء الأبرار ومن كان همه الدنيا تذكر الدنيا فسأل من متاعها ما لا يساوي عند الله جناح بعوضة.. والفرق بين همم العباد كالفرق بين السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع! أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعرابيًّا فأكرمه وقام بواجب الضيافة والقِرى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتنا) - يعني لنُكرِمَك ونَجزيَك أجرَ ما صنعتَ لنا - فأتاه يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سَلْ حاجتَك) قال: ناقةٌ نرَكَبُها وأعنُزٌ يحلِبُها أهلي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(أعَجَزْتُم أن تكونوا مثلَ عجوز بني إسرائيل) ؟ قالوا : يا رسول الله وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: (إن موسى عليه السلام لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا مَوثِقًا من الله أن لا نخرُجَ من مصر حتى ننقُلَ عظامَه معنا قال: فمن يعلمُ موضعَ قبرِه؟ قالوا: عجوزٌ من بني إسرائيل. فبعث إليها فأتته فقال: دُلِّيني على قبر يوسف قالت: حتى تعطيَني حكمي قال: وما حكمُكِ؟ قالت: أكون معك في الجنة فكره أن يعطيها ذلك فأوحى الله إليه: أن أعطِها حكمَها فانطلقت بهم إلى بُحَيرةٍ - موضِعِ مُستنقَعِ ماءٍ - فقالت: أَنضِبوا هذا الماء - يعني انزَحُوه ونشِّفوه - فأَنْضَبُوه فقالت: احتفروا. فاحتفروا فاستخرجوا عظام يوسف فلما أقلُّوها إلى الأرض - يعني رفعوها - إذا الطريق ُمثلُ ضوءِ النهار). لم تطلب العجوز شيئًا من الدنيا ولكنها طلبت مرافقة كليم الرحمن موسى بن عمران عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.. همةٌ عالية، ونفسٌ وثّابة، وقلبٌ طموح، وحسنُ ظن بالله العلي العظيم..   الله ارزقنا حسن الظن بك والطمع في رحمتك ورجاء مغفرتك يا أرحم الرحمين ويا خير الغافرين.. ومثل عجوز بني إسرائيل ربيعة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فلنستمع إلى قصته.. قال ربيعة: كنتُ أبيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيتُه بوَضوئِه وحاجتِه فقال لي: (سَلْ) فقلت: أسألك مرافقتَك في الجنة. قال: أوَ غيرَ ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: (فأعنّي على نفسك بكثرة السجود). لله دَرُّك يا ربيعة! لقد سألتَ ما تمنّاه الأولون والآخرون.. سألتَ ما أسهرَ العيون وحبب إلى الصائمين ظمأ الهواجر وأرخص المال في الوصول إلى بيت الله الحرام وجعل القراء يترنمون بآيات الكتاب العزيز آناء الليل والنهار.. اللهم إنا نسألك الرفيقَ الأعلى والنصيبَ الأوفى من جنات النعيم ونسألك الهدى والتقى والعفة والنُّهى والبشرى عند انقطاع الدنيا ونسألك إيمانًا لا يبيد وقرة عين لا تنفد وفرحًا لا ينقطع وتوفيق الحمد ولباس التقوى وزينة الإيمان ومرافقة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد. هذا ربيعة.. وأما أبو الدحداح فقد اشترى نخلة في الدنيا مقابل نخلة في الجنة ودفع في شراء نخلة الدنيا بستانًا كاملًا فيه ستمائة نخلة! عن أنس أن رجلًا قال: يا رسول الله إن لفلانٍ نخلةً وأنا أقيم حائطي بها فأْمُرْهُ أن يعطيَني - يعني تلك النخلة - حتى أقيمَ حائطي بها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطِها إياه بنخلة في الجنة) فأبى. فأتاه أبو الدحداح فقال: بِعني نخلتَك بحائطي! ففعل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ابتعتُ النخلة بحائطي، فاجعلها له - يعني للرجل المحتاج - فقد أعْطَيتُكَهَا فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم مِن عِذْقٍ رَداح لأبي الدحداح في الجنة) قالها مرارًا قال: فأتى أبو الدحداح امرأتَه فقال: يا أمَّ الدحداح، اخرُجي من الحائط؛ فإني قد بعتُه بنخلةٍ في الجنة. فقالت: ربح البيع! الله أكبر.. الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات.. علوٌّ في الهمم وسموٌّ في العزائم ونفوسٌ أبية أبتْ أن تجعل الدنيا أكبر همها أو مبلغَ علمها.. والله تعالى يقول: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، كلما طلعت شمس العزم وأشرقت الأرض بنور الإيمان أعادت لنا ذكرى عثمان رضي الله عنه الذي بذل ماله ونفسه لله، وبادر إلى اقتناص الفرصة كلما سنحت له فرصة.. عن أبي عبد الرحمن أن عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم فقال: أنشُدُكم الله - ولا أنشد إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفر بئر رومة فله الجنة) فحفرتها. ألستم تعلمون أنه قال: (من جهّز جيش العسرة فله الجنة) فجهزتهم فصدقوه بما قال. وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في كُمِّه حين جهّز جيشَ العسرة فنثرها في حجره، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلّبها في حجره ويقول: (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم) مرتين. هنيئًا لك يا عثمان بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنيئًا لك ما صنعتَ من المعروف والإحسان.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 26 أكتوبر 2018

الدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله ١٧|٢|١٤٤٠هـالموافق ٢٦|١٠|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، الأنبياء خيار بني آدم لكمال علمهم وخشيتهم وصدقهم وإخلاصهم ودعوتهم وتعليمهم وصبرهم على الناس، ثم من تأسى بهم من العلماء الربانيين الذين ورثوا عن الأنبياء العلم والعمل والزهد والورع والصدق والإخلاص والهمة العالية في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فعملوا على إخراج الناس من الظلمات إلى النور كما فعل الأنبياء فأسلم على أيديهم خلق كثير واهتدى بوعظهم وإرشادهم جمٌّ غفير من الحيارى والتائهين والسادرين والغارقين في الضلالة.. فنالُوا أجرَ من أسلم ومن اهتدى على أيديهم فمن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا يَنقُص ذلك من أجورهم شيئًا. وكل من اهتدى على أيديهم فهو يعلم مقدار الجميل الذي قدموه له لأنهم أخرجوه من الظلمات إلى النور وأنقذوه من النار وقد كان على شفا حفرة منها فأشرق بدعوتهم قلبه وبان له طريقُه وعرف الله الذي صدّه الشيطان عن سبيله. وفي الأثر: ((الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوه وضالٍّ تائه قد هدَوه، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد، فما أحسنَ أثرَهم على الناس وأقبحَ أثرَ الناس عليهم، يقتلونهم في سالف الدهر إلى يومنا هذا بالحدود ونحوها فما نسيهم ربك، وما كان ربك نسيًّا، جعل قصصهم هدى، وأخبر عن حسن مقالتهم، فلا تقصِّر عنهم فإنهم في منزلة رفيعة، وإن أصابتهم الوضيعة)). وكلما وهن عزمهم تذكروا المدِّثر صلى الله عليه وسلم الذي هجر الدثار وقام ينذر ويكبّر ربه ويطهر ثيابه ويحذّر من عبادة الأوثان ويصبر على ما يلقاه في سبيل الله.. وتذكروا نوحًا عليه السلام الذي ظلّ ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعو إلى الله لا يعرف الملل والكلل، يدعو بالليل والنهار والسر والإعلان لم ييأس ولم يترك الدعوة حتى أوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون. وديوانُ الدعوة إلى الله حافل بنماذج شتى من الدعاة ذوي الهمم العالية والعزائم السامية.. فهذا إبراهيم عليه السلام الذي خاصم قومه في الله وناظرهم وجادلهم ولما رأى أنهم لا يكفيهم الدليل العلمي راغ إلى آلهتهم فقال: ألا تأكلون! ما لكم لا تنطقون! فراغ عليهم ضربًا باليمين.. ومن شدة تعلقه بدينه ومحبته له وصى بنيه وتبعه حفيدُه يعقوب فوصّوا أبناءهم بالتمسك بالدِّين حتى يلقوا رب العالمين ((وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)). وهذا يوسف المسجون بغيًا وعدوًا يجد فرصة للدعوة إلى الله فيشرح دعوة التوحيد بكل ثبات ((وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ. يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)). وقد تعجب الكاتب الفرنسي (آرنولد) من المسلمين الذين لا ينسون دينهم حتى وهم في الأسر والسجون فإذا وجدوا فرصة دعَوا من أسرهم! ودعَوا المساجين المقصِّرين المحبوسين معهم! فأي محبة عندهم لدينهم! وقد خلّد  الله سبحانه موقفَ صاحبِ ياسين الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال: ((يا قوم اتبعوا المرسلين)) ولما قتله أصحابه تلقته الملائكة وقيل: ((ادخل الجنة. قال: يا ليت قومي يعلمون!)). وأعلى البريّةِ كلِّها همّةً في الدعوة إلى الله نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله له: ((فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات)) وقال: ((فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يَذبُّهنَّ عنها، وأنا آخُذُ بِحُجَزِكُم وأنتم تَفَلَّتُون من يَدِي)). لقد دعا صلى الله عليه وسلم إلى الله في المساجد والطرق والأسواق والمنازل والمواسم ومشى إلى الطائف ولما قال له ملَكُ الجبال: إن شئتَ أن أُطبقَ عليهم الأخشبَين. قال: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا.   صلى عليك الله يا عَلَم الهدى.. والله ما طلعت شمس ولا غربت * إلا وحبك مقرون بأنفاسي ولا جلستُ إلى قومٍ أحدِّثهم * إلّا وأنتَ حديثي بين جُلَّاسِي ومن حرصه أنه مشى إلى رأس المنافقين عبدِ الله بن أُبَيّ بن سَلول يدعوه إلى الله.. ومن حرصه أنه مشى إلى بيت كبير اليهود يدعوه إلى الله.. ومن حرصه أنه عاد غلامًا يهوديًا كان يخدمه فدعاه إلى الإسلام فأسلم فخرج وهو يقول: الحمد الله الذي أنقذه من النار.. وجاء رجل يريد قتلَه فأخذ السيف من يده وطلب منه الدخول في الإسلام.. وكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وملوك الأرض والأمراء والجبارين يدعوهم إلى الإٍسلام.. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين..   أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، الدعوة إلى الله ليست وقفًا على العلماء والأئمة والخطباء والوُعَّاظ والدُّعاة وليست الدعوة خطبة ولا درسًا ولا كلمة تُلقى بين يدي المصلين.. بل كل مسلم داعية، وكل أمر بالمعروف ونهي عن المنكر دعوة، فمُر بالمعروف أولادَك وإخوانَك وجيرانَك وأصحابَك وزملاءك ومديرَك في العمل ومن تحت ولايتِك من الموظفين.. وانهَ عن المنكر كل من يفعله من جارٍ وصاحب وولدٍ ووالد وقريب وبعيد.. فأفراد المجتمع إخوانُك، وأولاد المسلمين أولادُك، ولا تقل: لا علاقة لي بالآخرين. بل عليك تعلمَ العلم النافع والعملَ به ودعوةَ الآخرين إليه والصبرَ على الأذى فيه.. والمجتمع كالسفينة إذا غرق بعضُها غرق كلها.. والدعوة إلى الله ليست خاصة بالمسلمين فقط بل علينا الانطلاق بالدعوة إلى الكافرين أيضًا لإنقاذهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور.. وقد انشغل المسلمون بأنفسهم وأكلتهم الخلافات والنزاعات في المسائل الاجتهادية وتركوا دعوة الأمم الأخرى بل تركوا دعوة الغافلين من المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 12 أكتوبر 2018

هذا نذير من النذر الأولى

هذا نذير من النذر الأولى ٣|٢|١٤٤٠هـالموافق ١٢|١٠|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، الأزمات والابتلاءات العظيمة التي تمر بها منطقتنا الإسلامية سواءً السياسية والعسكرية منها كمشكلة فلسطين والعراق وسوريا ومصر وليبيا واليمن.. أو الاقتصادية, والأزمة العالمية التي تهدد العالم, أو الأخلاقية وانتشار الفواحش والمخدرات, أو الاجتماعية والفرقة والاختلاف الحاصل في الأمة حتى على مستوى الإسلاميين, وأخيرًا الكوارث والزلازل والسونامي الذي ضرب إندونيسيا وأودى بحياة نحو ألفي قتيل. ومن رحمة الله عز وجل بالناس, أنه يمهلهم ويوالي عليهم الإنذارات قبل أن يأخذهم, كما قال تعالى:(( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )). وقال تعالى: (( وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ. حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ )). (( وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ )) أي: جوع أصابهم بمكة سبع سنين، كما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال: .. وإنَّ قريشًا أبطأوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (( اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبع يوسف. فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ويرى الرجل مابين السماء والأرض كهيئة الدخان فجاءه أبو سفيان, فقال: يا محمد جئتَ تأمرنا بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادعُ الله. فقرأ: (( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ))..الحديث. قال الحافظ: وأفاد الدمياطي أن ابتداء دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كان عقب طرحهم على ظهره سلى الجزور وكان ذلك بمكة قبل الهجرة. قال تعالى:(( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ )) أي: الجوع, كما رواه النسائي في تفسيره وابن حبان في صحيحه, عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العِلْهِز- يعني الوبر والدم - فأنزل الله عزل وجل: (( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ ْبِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ )) حسنه الحافظ ابن حجر في الفتح, والأرناءوط في تعليقه على ابن حبان. (( فَمَا اسْتَكَانُوا )) تواضعوا وذلوا , (( لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ )) أي: يرغبون إلى الله بالدعاء والطاعة وذلك أن الله عز وجل يأخذهم بالعذاب الأدنى لإصلاحهم ولعلهم يرجعون (( حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ )) هو يوم بدر بالقتل, كما ثبت ذلك عن ابن عباس فيما رواه الطبري بإسناد حسن. (( إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ )) آيسون من كل خير, فإن الغفلة عن الإنذار الأول توجب عذابًا بعده. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ )) رواه ابن ماجه, وحسنه الألباني. فقوله: (( وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ )) يشمل الغش التجاري بأنواعه. وقوله: (( وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا )) فيه دليل على أن البهائم أفضل من البشر في حالة تمردهم على الله ومعصيتهم, قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ )). وقال تعالى: (( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا )) وأما نقض عهد الله وعهد رسوله: أي ترك طاعتهما. فمن تدبر هذا الحديث كفاه.. فكأنما النبي صلى الله عليه وسلم يشخصُ واقعنا المعاصر, ويذكر لنا فيه الداء والدواء. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، هذه الحالة التي وصلت إليها الأمة الإسلامية اليوم, هي التي أوجبت تداعي الأمم علينا اليوم, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِثَوْبَانَ: (( كَيْفَ أَنْتَ يَا ثَوْبَانُ، إِذْ تَدَاعَتْ عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَتَدَاعِيكُمْ عَلَى قَصْعَةِ الطَّعَامِ تُصِيبُونَ مِنْهُ؟ )) قَالَ ثَوْبَانُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا؟ قَالَ: (( لَا، بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ يُلْقَى فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنُ )) قَالُوا: وَمَا الْوَهَنُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (( حُبُّكُمُ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَتُكُمُ الْقِتَالَ )) رواه أحمد في مسنده, وهو حديث حسن. ولا حل لهذه الأمة إلا برجوعها إلى دينها. قال صلى الله عليه وسلم: (( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ, وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ )) رواه أبو داود وصححه الألباني. والعينة: نوع من أنواع الربا. وأخذ أذناب البقر والرضا بالزرع: كناية عن الرضا بالدنيا. فالواجب علينا جميعل الرجوع إلى ديننا والتوبة الصادقة من جميع الذنوب على مستوى جميع شرائح المجتمع والاستغفار الصادق الذي يوافق فيه اللسانُ القلب والذي يكشف الله به الكروب ويدفع به العقوبات العامة.. وندعو الناس إلى كثرة الدعاء والصدقات والتعاون في الكوارث والملمات وأن يكونوا يدًا واحدة وفريقًا واحدًا ويحمل القوي منهم الضعيف ونسأل الله أن يكفي بلادنا شر الكوارث والأعاصير ويجنبنا المهالك والنكبات ويلطف بنا وبجميع المسلمين اللهم اصرف عنا الشرور والمهالك والكوارث وآمنا في أوطاننا واغفر لنا أجمعين وهب المسيئين منا للمحسنين وتب علينا يا رب العالمين وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.. اللهم إنا نسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..  

الجمعة، 28 سبتمبر 2018

الفساد في الأرض

الفساد في الأرض ١٨|١|١٤٤٠هـالموافق ٢٨|٩|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، الفساد أنواع كثيرة، وصور مختلفة، وألوان عديدة، نذكر منها ثلاثة أنواع من الفساد ومن يمثّلها في غابر الزمان، وهي: فساد الحكم ويمثله فرعون، وفساد المال ويمثله أصحاب مدين، وفساد الأخلاق ويمثله قوم لوط. فأما فرعون فقد نشر العنصرية وجعل الناس فريقين: فريق له حقوق وامتيازات, وفريق عليهم الخدمة والعمل، وأسرف في إذلال بني إسرائيل، وقتلهم، حتى قتل الأطفال الذين لا يعقلون، ومشى على سياسةٍ كلُّها جَورٌ وحيف، يشجّعه على طريقته المسبِّحون بحمده من الوزراء والأمراء والمنافقين. والعجيب أن فرعون يرى نفسه من المصلحين، والأعجب أنه حذّر قومه من فساد موسى عليه السلام!   قال تعالى: " وَقَالَ فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ؛ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَاد !َ ". وتصريح المفسد بأنه يحب الخير والصلاح موجود في كل زمان قال تعالى: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ. وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ". ولما زاد فساد فرعون عن حدّه، والله لا يحب الفساد، حقّت عليه كلمة العذاب وجرَت عليه السنة الإلهية الثابتة فالتقمه البحرُ وحاشيتَه وجنودَه، ونصر الله موسى ومن معه من المؤمنين. قال تعالى: " وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ". وأما فساد المال فيمثله أصحاب مدين المشهورون بالتطفيف في المكيال والميزان وقطع الطريق على المارة فجمعوا بين السرقة الصغرى والسرقة الكبرى وبين التطفيف الخفي والغصبِ العلني وبين أخذ المال القليل خفيةً وقطعِ السبيل جهرةً والعدوان على أموال المسافرين بالقوة والسلاح. ولما طال عليهم الأمد وفسدت الأرض بتصرفاتهم رجفت بهم الأرض رجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. قال تعالى: " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ". وأما فساد الأخلاق فيمثله قوم لوط الذين كانوا يأتون الذكران من العالمين ويذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم قال تعالى: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ. أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ..". ولما انتكست فطرتهم نكَّسهم الله على رءوسهم وأرسل عليهم حجارة من سجيل منضود قال تعالى: " فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ". وجمع اليهود - الذين هم شر الخليقة - والحضارة الغربية المعاصرة كلَّ أنواع الفساد: فسادَ الحكم والمالِ والأخلاق، فعملوا على نشر الفتن والحروب بين الشعوب وأكلوا الربا ومارسوا الاحتكارات الكبرى قال تعالى عنهم: " كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ". بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، إذا عمّ الفساد، وغابت كلمةُ الناصحين حق العذاب على الناس أجمعين قال تعالى: " فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ. وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ". أي لم يكن في تلك الأمم جماعةٌ من أهل العقل والرأي والصلاح ينهَون المفسدين عن الفساد في الأرض ويأخذون على أيدي المفسدين لكيلا ينزل بهم العذاب فأهلكهم الله؛ لأن من سنة الله أن لا يهلك قومًا إلا إذا عمّ الفسادُ أكثرَهم. نسأل الله السلامة والعافية.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 7 سبتمبر 2018

وصايا آخر العام ١٤٣٩ هجرية

وصايا آخر العام ١٤٣٩هـالموافق ٧|١٢|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) فكل دابة نعلمها أو نجهلها قادرة أو غير قادرة تحمل رزقها أو لا تحمل رزقها نراها أو لا نراها كل هذا الكم الهائل من المخلوقات والكائنات في البر والبحر والجبال والفلوات والبراري والوديان والشعاب والمياه والهواء تكفل الله بأرزاقها وأقواتها ويعلم المكان الذي تحيا فيه وتستقر والمكان الذي تموت فيه وتدفن وتودع كل في كتاب مبين. والله يقدر الأرزاق كما يقدر الآجال فيجعل هذا غنيًا وهذا فقيرًا لحكمة يعلمها ولا يحيط بعلم الله وحكمته أحد قال تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) وهو أعلم بعباده وما يُصلحهم وما يُفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم قال تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فبعض الناس يضره الغنى وينفعه الفقر وبعض الناس يضره الفقر وينفعه الغنى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) والله لا يظلم الناس ولكن الناس أنفسَهم يظلمون فتنزل بهم المصائب بسبب المعايب وتهجم عليهم المآسي بسبب المعاصي وتطبق عليهم الكروب بسبب الذنوب. وهذه سنة كونية لا تتغير، وما يعفو الله عنه ويسامح فيه أكثر مما يعاقب عليه قال تعالى:(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ولو كان الله يعاقب الناس على كل ما فعلوه ما بقي منهم أحد قال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) فحل مشاكلنا وتفريج كروبنا وتغيير حالنا بيد الله وبالرجوع إلى الله والتوبةِ الشاملة من جميع الذنوب والمعاصي على مستوى الأفراد وعلى مستوى الدولة فالله تعالى يبتلينا لنرجع إليه ونتوب ونتدارك أنفسنا ونصحح أخطاءنا قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وقال تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وقال تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الداء والدواء وبيان حقيقة الحال: (يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدةِ المئُونة وجَور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القَطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم). فالأمراض المستعصية بسبب الفواحش العلنية، والقحط والفقر والشدة والجَور السلطاني بسبب اختلال المعاملات المالية، والجفاف وانحباس المطر بسبب حبس الزكاة، وتسلط الأعداء على البلاد والثروات بسبب نقض العهود والمواثيق، والحروب الداخلية والصراعات بسبب تعطيل الأحكام الشرعية. والحل هو في الرجوع إلى الله وإلى منهج الله بالتوبة من الذنوب السياسية والمالية والأخلاقية وترك التفرق والتنازع والصراع وعودة الأمة كلها إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، نودّع عامًا شاهدًا لنا أو علينا فعلينا محاسبة أنفسنا ووزن أعمالنا قبل أن توزن وتدارك ما فات وتصحيح الخطأ وتعديل المسار. ونستقبل عامًا دراسيًا جديدًا يتطلب منا المزيد من العطاء والنجاح والطموح والأمل والتفاؤل فبالعلم تنهض الأمم والشعوب، بالعلم نهضت ماليزيا وسنغافورة وغيرها وبالجهل والفوضى والحروب خربت بلدان وضاعت أوطان. علينا المحافظة على استقرار التعليم ودعمه وتشجيعه وعدم التفريط فيه بأي حال من الأحوال. ونطالب الدولة بوضع الحلول والمعالجات الصحيحة القادرة على حل الأزمة المالية الحالية والخروج بالناس من ظلمات الفقر وآلام الجوع. ونرفض قطع الطريق وتخريب الممتلكات العامة؛ لأنها ملك أمة وليست ملك فرد أو حكومة، وكذلك الممتلكات الخاصة. نسأل الله أن يفرج عن هذه الأمة وأن يجنب بلادنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 10 أغسطس 2018

أفضل أيام الدنيا

أفضل أيام الدنيا ٢٨|١١|١٤٣٩هـالموافق ١٠|٨|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، يوشك أن تلِجَ علينا أفضلُ أيام الدنيا، وتقومَ سوقُ المــَوسم العظيم.. أيام أقسم الله بها لعظمتها، وأمرَ بذكره تعالى فيها، شكرًا له على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة.. أيام تجتمع فيها أمهات العبادة من صلاة وصيام وصدقة وحج وعمرة.. أيام الذكر والدعاء والتوحيد والإيمان والعمل الصالحِ والتنافسِ والمسابقةِ على فضل الله والتعرضِ لرحماته والعَوذِ واللَّوذِ به.. أيام تلاوة آيات الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. أيام التوبة النصوح الخالصة التي تغسلُ الذنوب والخطايا بماء الثلج والبرد وتباعدُ بين الرجل وبين خطاياه كما باعد الله بين المشرق والمغرب وتنقِّي المؤمن من خطاياه كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنَس..   أيام البذلِ والعطاء والصدقةِ والجود والمعروفِ والإحسان.. أيام البحث عن المساكين وإغاثة الملهوفين في أيام المسغبة التي نزلت بالناس.. أيامُ التفتيش عن الجائعين من اليتامى الأقربين والمساكين المـُعدمين.. أيامُ الصدقاتِ والمكارم والصيامِ والقيام في زمنٍ غلت فيه الأسعار وضاقت فيه الأرزاق وقل فيه المال. والصدقة تطفئ غضب الرب وتغفر الذنب وتقي مصارع السوء وتزيد الرزق وتهدي القلب وتبارك في المتصدق وماله وأهله وتحفظه من بين يديه ومن خلفه.. رحم الله عبدًا فزع إلى ماله فقال به يمينًا وشمالًا ومن بين يديه ومن خلفه ابتغاء مرضات الله وطمعًا في رحمة الله وتعرضًا لمغفرة الله رب العالمين ورأفةِ خير الراحمين.. وأفضل الأعمال في زمننا هذا وبلدنا هذا: الصدقات والأضاحي وإغاثة المكروبين وتفريج هم المهمومين وإدخال السرور على المسلمين.. قال الله عز وجل في بيان فضل عشر ذي الحجة: ((وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( العشر عشر الأضحى والوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر)) رواه أحمد بسند صحيح. وقال مجاهد: ((وليال عشر)) عشر ذي الحجة. رواه الطبري بسند صحيح. وقال قتادة: ((الشفع يوم الأضحى والوتر يوم عرفة)) رواه الطبري بسند حسن. وقال الله عز وجل: ((لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)). قال ابن عباس: ((ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)) أيام العشر والأيام المعدودات أيام التشريق. رواه البخاري. وقال قتادة: الأيام المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق. رواه عبد الرزاق بسند صحيح. وقال ابن عباس في قوله تعالى: ((واذكروا الله في أيام معدودات)) يعني أيام التشريق. رواه الطبري بسند حسن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام – يعني أيام العشر – قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلًا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) رواه أحمد بسند صحيح. ومع هذا الفضل العظيم الثابت فيها إلا أن كثيرًا من الناس يغفلون عنها فلا يشعرون بها، ولا يعملون فيها، ولا يستفيدون منها، ولا يحسنون ضيافتها بخلاف الأيام والليالي العشر الأخيرة من رمضان فإن أكثر الناس يجتهدون فيها. والمطلوب هو الاجتهاد في هذه وتلك فكلها فاضلة وكلها عظيمة وكلها يضاعف فيها الأجر أضعافًا كثيرة. وانظر إلى هذا الحديث الذي يقول لا توجد أيام في العام كله العمل الصالح فيها خير وأفضل وأزكى وأحب إلى الله من العمل في عشر ذي الحجة ولما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله! إلا رجل خرج بنفسه وماله فأهريق دمه وعقر جواده وعفر وجهه بالتراب وذهبت مهجته وماله فلم يرجع بشيء! فأين العاملون المجدون الراغبون الراهبون التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون! أين الذين يحبون أن يغفر الله لهم والله غفور رحيم! أين الذين يريدون أن يحبهم الله فيكون سمعهم وبصرهم وأيديهم وأرجلهم! أين الذين يحبون أن يحشروا إلى الرحمن وفدًا ويجعل لهم الرحمن ودًّا! أين الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع! ومن العمل الصالح المحبوب في هذه الأيام التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وللتكبير خصوصية في هذه الأيام, فقد كان عبد الله بن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبِّران ويكبِّر الناس بتكبيرهما. رواه البخاري. ومن العمل الصالح المحبوب في هذه الأيام صوم يوم عرفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)) رواه مسلم. ومن العمل الصالح المحبوب في هذه الأيام ذبح الأضاحي، ويستحب لمن أراد أن يضحي أن يمسك عن شعره وأظفاره فلا يأخذ منه شيئًا حتى يضحي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يمس من شعره ولا بشره شيئًا)) رواه مسلم. وفي رواية: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحّي فليمسك عن شعره وأظفاره)). أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، يشترط في الأضحية أن تكون سليمة من العيوب التي تنقص اللحم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البيّن عوَرُها والمريضة البيّنُ مرضُها، والعرجاء البيّنُ ظلْعُها، والكسيرة التي لا تنقي)) رواه أحمد بسند صحيح. فلا تجزئ العوراء - والعمياء من باب أولى - والمريضة مرَضًا بيّنًا، والجَرباء، والعرجاء عرَجًا شديدًا، والعجفاء التي ذهب لحمُها من الهُزال.. ويشترط أن تكون الأضحية جذعة من الضأن أو ثنية من غيرها، والجذَعة من الضأن ما لها سنة وقيل: ما لها ستة أشهر، والثنية من المعز ما لها سنتان وقيل: ما لها سنة.. ((فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)) ((فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ)) والقانع: هو الذي لا يسأل تقنُّعًا وتعففًّا. والمــُعتَرّ: هو الفقير الذي يسأل.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 3 أغسطس 2018

بناء المسجد الحرام وفضل الحج

بناء البيت الحرام وفضل الحج ٢١|١١|١٤٣٩هـالموافق ٣|٨|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، المسجدُ الحرام قِبلةُ المسلمين، والحرم الذي تهواه الأفئدة، أشرف المساجد على الإطلاق، وهو أول بيتٍ وُضِع لعبادة الله على هذه البسيطة قال الله تعالى: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)) وفي الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الأَقْصَى)) قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: ((أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ)). أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا -والمنطق ما يشد به الوسط- لَتُعَفِّي أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ - َيعني لتخفي أثرها على سارة - ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ - يعني عند شجرة كبيرة - فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ- يعني المكان الذي صار فيه المسجد- وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا - يعني ولَّى راجعًا إلى الشام - فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ! فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ-أي عند مكان مرتفع- حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)). وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ - يعني يتقلب على ظهره وبطنه ويتمرغ في الأرض كالذي ينازع من شدة العطش- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ -وهو عميقٌ يومَها- تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ، رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ، حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ، فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: ((فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا)) فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ: صَه. تُرِيدُ نَفْسَهَا- كأنها خاطبت نفسها فقالت لها: اسكتي- ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ -أغثني إن كان عندك خير- فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ -جبريل عليه السلام- عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ -أي بمؤخر قدمه- أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ، حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ -أي تجعله مثل الحوض- وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاس رضي الله عنهماٍ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: ((يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ)) -أَوْ قَالَ: ((لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا)). أي لكانت زمزم ماء ظاهرًا جاريًا على وجه الأرض. قَال:َ فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ-أي لا تخافوا الهلاك- ثم قال لها جبريل: فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِيه هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ. - فَكَانَتْ هاجر كَذَلِكَ -يعني تتغذى بماء زمزم فيكفيها عن الطعام والشراب- حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ -أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ- مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا -يعني يحوم على الماء- فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ -يعني رسولاً لأنه يجري مسرعاً- فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاس رضي الله عنهماٍ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الْغُلَامُ -إسماعيل- وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ - يعني رغبوا في مصاهرته لنفاسته عندهم- وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ - يعني بلغ- زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ. ثُمَّ جَاءَ إبراهيم بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ -شجرة- قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ -أي هضبة- مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا. قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولَانِ: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)). قال الله جل وعلا: ((وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا – أي مشاة على أرجلهم – وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ – أي بعير أو فرس مهزول من بعد الشُّقّة – يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ – أي طريق بعيد – . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ – أي الفقير الذي اشتد فقره –. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ – أي ليزيلوا بالتحلل ما علق بهم من أوساخ – وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ – أي القديم –)). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخطبة الثانية أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا)) فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ: ((لَوْ قُلْتُ نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ)) متفق عليه. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((إِيمَانٌ بِاللَّهِ)) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ((الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ((حَجٌّ مَبْرُورٌ)) متفق عليه. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 20 يوليو 2018

لا تغضب

لا تغضب ٧|١١|١٤٣٩هـالموافق ٢٠|٧|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، الغضب غريزة من غرائز الإنسان وله وظيفة كبيرة في الدفاع عن حرمات الله وحقوق المسلمين وديارهم، يقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)). ولكنه إذا تحول إلى انتقام للذات تحوّل إلى نار تُحرِق الأخضر واليابس، فعندها تفقد هذه الغريزةُ هدفَها، وتضِلُّ طريقَها، فكان لا بد من وضع علاج لها ودواء؛ لتفادي آثارها الوخيمة، فجاءت السنة النبوية المباركَة والتي هي المكمِّلة لكتاب الله، فشخَّصت غريزةَ الغضب وعالجتها بأفعال وأقوال، لتبقى مكنونةً في النفس، لا تظهرُ إلا في حالاتٍ معينة، وذلك حفاظًا على الوِدِّ بين المسلمين ووِحدةِ صفِّهم وقوِّته، وحفاظًا على الإنسان ذاتِه من أن يؤدِّيَ به هذا الغضبُ إلى نتائجَ لا تُحمَدُ عُقباها. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: ((لا تغضب)) فردّد مرارًا، قال: ((لا تغضب)) رواه البخاري. والغضب ضربان: الضرب الأول: الغضب المحمود: وهو ما كان لله ولحرماته، ولم يكن للنفس فيه نصيب, قال تعالى: ((قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) وقال تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) وقال جل ذكره: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتى إليه حتى يُنتهك من حرمات الله فينتقم لله)). وجاء في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ((كان أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه)). وعن عائشة رضي الله عنها أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حد من حدود الله؟)) ثم قام فاختطب فقال: ((أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سترت سهوة لي بقِرامٍ فيه تماثيل، فلما رآه هتكه، وتلّون وجهه وقال: ((يا عائشة، أشدّ الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله)). والسهوة شبه الرف، والقِرام: الستر الرقيق. فهذا الغضب كله محمود. والضرب الثاني من الغضب: الغضب المذموم: وهو ما كان انتقامًا للنفس، وهذا الغضب تترتب عليه نتائج خطيرة على الإنسان ذاته وعلى مجتمعه، وهو الذي حذّرنا منه الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، ومناسبات عدة. وللغضب أسباب منها: الخلافات الزوجية، والفقر، والظلم، والحسد.. وغيرها. وللغضب آثار مدمرة على المجتمع والصحة البدنية والعقلية والنفسية.. فالغضب يولِّد العداوة والبغضاء، وهو سبب رئيس للندم، والقتل، والطلاق وتمزق الأسر.. وسبب رئيس في الجلطات الدماغية وتصلب الشرايين وحموضة المعدة واضطراب عمل الكليتين واضطراب الدورة الدموية والعجز الجنسي والإمساك المزمن والقولون العصبي والإصابة بالسكر وأكدت الدراسات الحديثة أن المصابين بالانفعالات النفسية والعصبية عندهم قابلية أكثر للإصابة بالأمراض الخبيثة – بعد تقدير الله سبحانه وتعالى – والغضب سبب رئيس للتوتر والقلق وضعف التركيز والإرهاق والشعور بالملل وعدم إدراك الأشياء على حقيقتها وقصور التفكير.. ولما كان كظم الغيظ يحتاج إلى قوة مضاعفة وإرادة ماضية وجهادٍ أكبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنًما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)). والغضب لا يأتي بخير أبدًا.. فوصية نوصي بها أنفسنا ونوصي بها كلَّ أبٍ وأم وزوجٍ وزوجة ومسئولٍ وموظف وحاكمٍ ومحكوم وعالِمٍ وداعية ومربٍّ وموجِّه وجارٍ وقريب وبائعٍ ومشتري: لا تغضب، لا تغضب لا تغضب..    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، ما علاج الغضب وما الوقاية منه؟   هناك جملة من الإجراءات تساعد على علاج الغضب: منها تجنب أسباب الغضب ودواعيه وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تغضب)) أي ابتعد عن أسباب الغضب ودواعيه. ومنها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فهو الذي يثير الغضب ويشعل نار الانتقام، وهذه رسالة الشيطان ومهمته في الحياة لا يترك الإنسان في حاله حتى يوقعه في المهالك. روى مسلم في صحيحه أنه استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) فقال الرجل: وهل ترى بي من جنون! قال النووي – رحمه الله –: ((أما قول هذا الرجل الذي اشتد غضبه: هل ترى بي من جنون! فهو كلام من لم يفقه في دين الله تعالى ولم يتهذب بأنوار الشريعة المكرمة وتوهَّم أن الاستعاذة مختصة بالمجنون ولم يعلم أن الغضب من نزَغات الشيطان ولهذا يخرج به الانسان عن اعتدال حاله ويتكلم بالباطل ويفعل المذموم وينوي الحقد والبغض وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب)). ومنها تغيير وضعية الغاضب أثناء غضبه، إن كان واقفًا يجلس أو يضطجع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)). ومنها كظم الغيظ أثناء الغضب بالعفو وعدم الانتقام؛ لأن ذلك يقضي على بذور الفتن، ويفتح أبواب المحبة والتسامح بين الناس.. قال تعالى: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَظَمَ غَيْظًا -وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ- دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ)) وقال: ((ما من جرعة أعظم أجرًا عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله)) وقال: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)). ومنها السكوت وضبط اللسان عن الكلام أثناء الغضب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا غضب أحدكم فليسكت)). قال الشافعي – رحمه الله –: يخاطبني السفيهُ بكلِّ قُبحٍ فأكره أن أكونَ له مُجيبًا يزيد سفاهةً فأزيد حلمًا كعُودٍ زادهُ الإحراقُ طيبًا ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 29 يونيو 2018

الرسالة المحمدية

الرسالة المحمدية ١٥|١٠|١٤٣٩هـالموافق ٢٩|٦|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((قَاعِدَةٌ نَافِعَةٌ فِي وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِالرِّسَالَةِ، وَبَيَانِ أَنَّ السَّعَادَةَ وَالْهُدَى فِي مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الضَّلَالَ وَالشَّقَاءَ فِي مُخَالَفَتِهِ وَأَنَّ كُلَّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ، إمَّا عَامٌّ وَإِمَّا خَاصٌّ فَمَنْشَؤُهُ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ وَأَنَّ كُلَّ شَرٍّ فِي الْعَالَمِ مُخْتَصٌّ بِالْعَبْدِ فَسَبَبُهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ أَوْ الْجَهْلُ بِمَا جَاءَ بِهِ وَأَنَّ سَعَادَةَ الْعِبَادِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمُعَادِهِمْ بِاتِّبَاعِ الرِّسَالَةِ. وَالرِّسَالَةُ ضَرُورِيَّةٌ لِلْعِبَادِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا وَحَاجَتُهُمْ إلَيْهَا فَوْقَ حَاجَتِهِمْ إلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالرِّسَالَةُ رُوحُ الْعَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ فَأَيُّ صَلَاحٍ لِلْعَالَمِ إذَا عَدِمَ الرُّوحَ وَالْحَيَاةَ وَالنُّورَ؟ وَالدُّنْيَا مُظْلِمَةٌ مَلْعُونَةٌ إلَّا مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مَا لَمْ تُشْرِقْ فِي قَلْبِهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ وَيَنَالُهُ مِنْ حَيَاتِهَا وَرُوحِهَا فَهُوَ فِي ظُلْمَةٍ؛ وَهُوَ مِنْ الْأَمْوَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) فَهَذَا وَصْفُ الْمُؤْمِنِ كَانَ مَيِّتًا فِي ظُلْمَةِ الْجَهْلِ فَأَحْيَاهُ اللَّهُ بِرُوحِ الرِّسَالَةِ وَنُورِ الْإِيمَانِ وَجَعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَمَيِّتُ الْقَلْبِ فِي الظُّلُمَاتِ. وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى رِسَالَتَهُ رُوحًا وَالرُّوحُ إذَا عَدِمَ فَقَدْ فُقِدَتْ الْحَيَاةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) فَذَكَرَ هُنَا الْأَصْلَيْنِ وَهُمَا: الرُّوحُ وَالنُّورُ فَالرُّوحُ الْحَيَاةُ وَالنُّورُ النُّورُ. وَكَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَهُ حَيَاةً لِلْقُلُوبِ وَنُورًا لَهَا بِالْمَاءِ الَّذِي يُنَزِّلُهُ مِنْ السَّمَاءِ حَيَاةً لِلْأَرْضِ وَبِالنَّارِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا النُّورُ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) فَشَبَّهَ الْعِلْمَ بِالْمَاءِ الْمُنَزَّلِ مِنْ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ بِهِ حَيَاةَ الْقُلُوبِ كَمَا أَنَّ بِالْمَاءِ حَيَاةَ الْأَبْدَانِ وَشَبَّهَ الْقُلُوبَ بِالْأَوْدِيَةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ الْأَوْدِيَةَ مَحَلُّ الْمَاءِ فَقَلْبٌ يَسَعُ عِلْمًا كَثِيرًا وَوَادٍ يَسَعُ مَاءً كَثِيرًا وَقَلْبٌ يَسَعُ عِلْمًا قَلِيلًا وَوَادٍ يَسَعُ مَاءً قَلِيلًا وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلُو عَلَى السَّيْلِ مِنْ الزَّبَدِ بِسَبَبِ مُخَالَطَةِ الْمَاءِ وَأَنَّهُ يَذْهَبُ جُفَاءً أَيْ: يُرْمَى بِهِ وَيُخْفَى وَاَلَّذِي يَنْفَعُ النَّاسَ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْتَقِرُّ وَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ تُخَالِطُهَا الشَّهَوَاتُ وَالشُّبُهَاتُ فَإِذَا ترابى فِيهَا الْحَقُّ ثَارَتْ فِيهَا تِلْكَ الشَّهَوَاتُ وَالشُّبُهَاتُ ثُمَّ تَذْهَبُ جُفَاءً وَيَسْتَقِرُّ فِيهَا الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَالنَّاسَ وَقَالَ: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ) فَهَذَا الْمَثَلُ الْآخَرُ وَهُوَ النَّارِيُّ فَالْأَوَّلُ لِلْحَيَاةِ وَالثَّانِي لِلضِّيَاءِ. وَنَظِيرُ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ: الْمِثَالَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلَى قَوْلِهِ: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَفِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ غَيْرَ حَيٍّ وَإِنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ حَيَاةً بَهِيمِيَّةً فَهُوَ عَادِمُ الْحَيَاةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْعُلْوِيَّةِ الَّتِي سَبَّبَهَا سَبَبُ الْإِيمَانِ وَبِهَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الرُّسُلَ وَسَائِطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي تَعْرِيفِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ وَتَكْمِيلُ مَا يُصْلِحُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمُعَادِهِمْ وَبُعِثُوا جَمِيعًا بِالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ وَتَعْرِيفِ الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إلَيْهِ وَبَيَانِ حَالِهِمْ بَعْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ. فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْقَدْرِ وَذِكْرِ أَيَّامِ اللَّهِ فِي أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَهِيَ الْقِصَصُ الَّتِي قَصَّهَا عَلَى عِبَادِهِ وَالْأَمْثَالُ الَّتِي ضَرَبَهَا لَهُمْ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي يَتَضَمَّنُ تَفْصِيلَ الشَّرَائِعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ وَبَيَانِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَا يَكْرَهُهُ. وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ مَدَارُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَالسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهَا وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ؛ فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَهْتَدِي إلَى تَفَاصِيلِهَا وَمَعْرِفَةِ حَقَائِقِهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ يُدْرِكُ وَجْهَ الضَّرُورَةِ إلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُدْرِكُ وَجْهَ الْحَاجَةِ إلَى الطِّبِّ وَمَنْ يُدَاوِيه وَلَا يَهْتَدِي إلَى تَفَاصِيلِ الْمَرَضِ وَتَنْزِيلِ الدَّوَاءِ عَلَيْهِ . وَحَاجَةُ الْعَبْدِ إلَى الرِّسَالَةِ أَعْظَمُ بِكَثِيرِ مِنْ حَاجَةِ الْمَرِيضِ إلَى الطِّبِّ ؛ فَإِنَّ آخِرَ مَا يُقَدَّرُ بِعَدَمِ الطَّبِيبِ مَوْتُ الْأَبْدَانِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْعَبْدِ نُورُ الرِّسَالَةِ وَحَيَاتِهَا مَاتَ قَلْبُهُ مَوْتًا لَا تُرْجَى الْحَيَاةُ مَعَهُ أَبَدًا أَوْ شَقِيَ شَقَاوَةً لَا سَعَادَةَ مَعَهَا أَبَدًا فَلَا فَلَاحَ إلَّا بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ فَإِنَّ اللَّهَ خَصَّ بِالْفَلَاحِ أَتْبَاعَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْصَارَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أَيْ: لَا مُفْلِحَ إلَّا هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالْفَلَاحِ كَمَا خَصَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمْ وَيُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَى رَسُولِهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ وَيُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَبِالْهُدَى وَالْفَلَاحِ فَعَلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْهُدَى وَالْفَلَاحَ دَائِرٌ حَوْلَ رُبُعِ الرِّسَالَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا. وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ السَّمَاءِ وَبُعِثَ بِهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ وَلِهَذَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا أَخْبَارَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ وَمَا صَارَتْ إلَيْهِ عَاقِبَتُهُمْ وَأَبْقَى آثَارَهُمْ وَدِيَارَهُمْ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَمَوْعِظَةً. وَكَذَلِكَ مَسَخَ مَنْ مَسَخَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَكَذَلِكَ مَنْ خَسَفَ بِهِ؛ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ مِنْ السَّمَاءِ وَأَغْرَقَهُ فِي الْيَمِّ؛ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ الصَّيْحَةَ وَأَخَذَهُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ لِلرُّسُلِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَمَّا جَاءُوا بِهِ وَاِتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ. وَهَذِهِ سُنَّتُهُ سُبْحَانَهُ فِيمَنْ خَالَفَ رُسُلَهُ وَأَعْرَضَ عَمَّا جَاؤُوا بِهِ وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ؛ وَلِهَذَا أَبْقَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ آثَارَ الْمُكَذِّبِينَ لِنَعْتَبِرَ بِهَا وَنَتَّعِظَ؛ لِئَلَّا نَفْعَلَ كَمَا فَعَلُوا فَيُصِيبُنَا مَا أَصَابَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ. وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وَقَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أَيْ: تَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ نَهَارًا بِالصَّبَاحِ وَبِاللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) وَقَالَ تَعَالَى فِي مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيل. إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) يَعْنِي: مَدَائِنَهُمْ بِطْرِيقٍ مُقِيمٍ يَرَاهَا الْمَارُّ بِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَاب الْعَزِيزِ: يُخْبِرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ إهْلَاكِ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ وَنَجَاةِ أَتْبَاعِ الْمُرْسَلِينَ؛ وَلِهَذَا يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ قِصَّةَ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَيَذْكُرُ لِكُلِّ نَبِيٍّ إهْلَاكَهُ لِمُكَذِّبِيهِمْ وَالنَّجَاةَ لَهُمْ وَلِأَتْبَاعِهِمْ ثُمَّ يَخْتِمُ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ: (إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فَخَتَمَ الْقِصَّةَ بِاسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَقْتَضِيهَا تِلْكَ الصِّفَةُ (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فَانْتَقَمَ مِنْ أَعْدَائِهِ بِعِزَّتِهِ وَأَنْجَى رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ بِرَحْمَتِهِ)) انتهى كلامه رحمه الله.. نفعني اللهُ وإياكم بهدْيِ كتابِه.. أقول قولي هذا وأستغفر اللهَ العظيمَ لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، المطبّاتُ والحُفَر في الشوارع العامة مشكلةٌ متفاقمةٌ سبَّبها غيابُ دَور المرور وعدمُ ممارسة صلاحياتِه فكثُرت التجاوزاتُ وأصبح كلُّ من أراد عَمِلَ مطبًا بلا حسيب ولا رقيب، وكلُّ من حفَرَ حُفرةً لعملٍ ما تركها بلا ردْمٍ فأعاقت السيرَ وأضرت المارَّة. ومعالجةُ هذه الظاهرةِ بيدِ إدارةِ المرور؛ بمنعِ أيِّ عملٍ في الشوارع العامة إلا برخصةٍ من المرور ومعاقبةِ المتجاوزين العقابَ الذي يردع أمثالَهم. وهذه المـَطبّات والحُفَرُ من الأذى في الطريق، وإدخالِ الضررِ والمشقةِ على المسلمين، وإزالتُها وتنظيمُها وفقَ المواصفاتِ الصحيحة من العمل الصالح الذي يحبه الله.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( الإيمانُ بِضْعٌ وَسَبعُونَ أَوْ بِضعٌ وسِتُونَ شُعْبَةً: فَأفْضَلُهَا قَولُ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ، والحياءُ شُعبَةٌ مِنَ الإيمان )). وقال عليه الصلاة والسلام: (( لَقدْ رَأيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ في شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَرِيقِ كَانَتْ تُؤذِي المُسْلِمِينَ )) وفي رواية: (( مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لأُنْحِيَنَّ هَذَا عَنِ المُسْلِمينَ لا يُؤذِيهِمْ، فَأُدخِلَ الجَنَّةَ )) وفي رواية: (( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشي بِطَريقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوكٍ عَلَى الطريقِ فأخَّرَه فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ )). ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 22 يونيو 2018

وقفات بعد رمضان

وقفات بعد رمضان ٨|١٠|١٤٣٩هـالموافق ٢٢|٦|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، فارقَنا رمضان حاملًا في يديه كتبَ أعمالِ العباد، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.. فمن أحسن فليحمد الله فالفضل كلُّه لله وحدَه وما بكم من نعمة فمن الله، ومن أساء فليستغفر الله وليتدارك نفسه قبل فوات الأوان وانتهاء الأجل، فالعاقل من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.. ولئن كان رمضانُ انتهى فالعمل الصالح لا ينتهي وأبواب الخير لا تغلق ودروب التوفيق لا تتعطل والمسلم لا يتوقف عما يقرّبه إلى ربه ولا يفرط في جنب الله بل هو كل يوم في مزيد من الإيمان والعمل الصالح  والاجتهاد والعبادة.. ما بين صلاةٍ وصيام وركوعٍ وقيام وتلاوةٍ وذكر لا يفتر لسانه عن ذكر الله ولا يشبع قلبه من الثناء على الله.. ورمضان مدرسة تخرّج الناجحين، يتعلم فيها المسلمُ إقامةَ الصلاة والاستكثارَ من النوافل وصلةَ الأرحام وتلاوةَ القرآن وكثرةَ الذكر والرغبةَ والرهبةَ والدعاءَ والخوفَ والرجاءَ والخلوةَ برب الأرض والسماء والفرارَ إلى الله والأنسَ بالله وأن الله هو المولى والموئل والمأوى والملجأ وإيثارَ الله على ما سواه وأن الله على كل شيء قدير وبكل شيء بصير وهو الحكيم الخبير وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن الله قريب مجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويجيب المضطر إذا ناداه ويكشف السوء.. تعلمنا في رمضان الصلاةَ في جماعة والحرصَ على الرواتب التابعة لها وأن الصلاةَ قرةُ العيون وراحةُ القلوب.. والصلاة في جماعة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر وتعلّم المسلمَ النظامَ واحترامَ الوقت والتواضعَ للآخرين فلذلك كان أجرُها أعظمَ من صلاة الفرد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاةُ الجماعة أفضلُ من صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين درجة ". فهل ما زالت التجارةُ والبيعُ واللهوُ واللعبُ تُلهيك عن ذكر الله وإقامِ الصلاة! أم غلب عليك نور الإيمان فصرتَ تفزع إلى الصلاة كلما سمعتَ صوتَ الأذان! " اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ. رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ". وتعلمنا في رمضان أن القرآن أمانٌ من الزيغ وعصمةٌ من الباطل ويقينٌ يملأ الصدر وروحٌ يسكن القلب وأن القربَ منه قُربة وأن قراءتَه قُربان وأنه نور وإيمان وأمن وأمان وأن المحروم من حرَم نفسَه القرآن.. " كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ "، " كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ "، " وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" ، " وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُون". فهل سنظل على العهد ونتعاهد القرآنَ العظيم والسبعَ المثاني أم سنضعه في الرفوف حتى يَهِلَّ هلالُ رمضانَ التالي! وتعلّمنا في رمضان صلةَ الأرحام, وصلاحَ ذاتِ البين وتركَ القطيعةِ والهُجرانِ، والعفوَ والصفحَ وسماحةَ القلبِ واللسان، وأن تعفوَ عن ظلمك وتصلَ من قطعك وتعطيَ من حرَمك، وأن نتسامى فوق الجراح ونؤثرَ الباقية على الفانية ونرجوَ ما عند الله ونفعلَ كل شيء لله.. " فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ". بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية أيها المسلمون، ها هنا طائفةٌ من التنبيهاتِ والوقفات.. الوقفة الأولى: الحجاب الشرعي، بدأت تظهر في مجتمعنا أنواعٌ من العباءات ملونة مزركشة ضيقة ملفتة للنظر.. لا تمُتُّ إلى الحجاب للشرعي بِصِلة، بل هي أداة من أدوات الشيطان، ووسيلة من وسائل الفتنة لبني الإنسان، يصد الشيطان بها عن سبيل الله، ويُغوي بها من اتبع هواه، ألا فليتق الله أولياء الأمور قبل البنات، فالمسئولية تقع على رب الأسرة أولًا قبل البنت نفسِها، فلولا الترخيص والسماح بهذا لما  تجرأت البنتُ على شرائه ولا الخروج به فليتق الله من كان واليًا على بنات وليعلم أنهن أمانة وأنه مسئول عنهن يوم القيامة.. " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلكم رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: وَالأمِيرُ رَاعٍ، والرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أهْلِ بَيتِهِ، وَالمَرْأةُ رَاعِيةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجها وَوَلَدهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ". الوقفة الثانية: نطالب بتفعيل شرطة الآداب في الأسواق العامة والحدائق والشواطئ والمنتزهات لمنع الذين في قلوبهم مرض من معاكسة البنات والتحرش بالفتيات فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة وهي تقع على عاتق الدولة أولًا قبل أفراد المسلمين. الوقفة الثالثة: أضم صوتي إلى صوت العلماء والوجهاء والمشايخ والأعيان في المطالبة بتحسين الخدمات في مدينة الشحر وأخواتها ومساواتها ببقية المديريات في الماء والكهرباء والنظافة وغيرها من الخدمات الضرورية فالناس سواسية والمناطق سواء وكلكم لآدم وآدم من تراب.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 8 يونيو 2018

فرصة العمر

فرصة العمر
٢٣|٩|١٤٣٩هـالموافق ٨|٦|٢٠١٨م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب / محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، رمضان شهر الصبر فيه نتعلم الصبر على الأوامر الشرعية من صيام وقيام والصبر عن المعاصي والصبر على الأقدار المؤلمة.
وحاجتنا إلى الصبر في هذا العصر تتضاعف أضعافًا كثيرة عن حاجة الناس في العصور قبلنا وذلك بسبب هجمة الفتن التي تتقلب بين فتن الضراء وفتن السراء ولعل هذه الأيام التي نعيشها هي أيام الصبر التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم ".
وفي رمضان نتعلم الشكر لله تعالى على نعمه وقد نبه القرآن على الشكر عند إكمال العدة فقال تعالى: " وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " ومهما شكرنا الله فلن نؤدي حقه لأن نعمه علينا أكبر من أن تحصى، ومن أجلها نعمة الإيمان والعمل الصالح والقدرة على التفكير والتذكر والقدرة على الكلام والسمع والبصر..
قرأ الفُضَيل بن عِيَاض رحمه الله قوله تعالى: " أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ " فبكى فسئل عن بكائه فقال: هل بتَّ شاكرًا لله أن جعل لك لسانا تنطق به وعينين تبصر بهما؟ وجعل يعدد أنواع النعم.
وروى ابن أبي الدنيا أن رجلًا بسط الله عليه الدنيا ثم انتزعها منه فجعل يحمد الله ويثني عليه فقال له رجل آخر لم تُنزَع منه الدنيا: علامَ تحمد وتشكر؟ قال: أحمد على ما لو أُعطيتُ به ما أوتي الخلق لم أعطهم إياه، قال: وما ذاك؟ قال: أرأيت بصرك؟ أرأيت سمعك؟ أرأيت لسانك؟ أرأيت يديك؟ أرأيت رجليك؟..
أمة الإسلام، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالمال والحال، فالجود بالمال ليس هو الصورة الوحيدة للجود بل هناك جود بغير المال وهو نوعان:
الأول: ما فيه نفع للناس كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع وإقراء القرآن والدعاء للمسلمين والاستغفار لهم وإزالة الأذى عنهم ومن ذلك إماطة الأذى عن الطريق وتنظيف الشوارع وإزالة مخلفات الأمطار والسيول والمحافظة على نظافة المدينة بوضع القمامة في الأماكن المخصصة لها والتعاون مع عمال النظافة والفرق التطوعية في تنظيف الأحياء والحارات، وهناك حملة تنظيف تنطلق هذا اليوم دعت إليها السلطة المحلية فندعو الأهالي إلى المساهمة فيها والتعاون على إنجاحها.
قال رسول  الله صلى الله عليه وسلم: " تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة " وقال: " وتميط الأذى عن الطريق صدقة " وقال: " لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين " وقال: " بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له ".
والنوع الثاني من الجود بغير المال ما نفعه قاصر على الإنسان نفسِه كأنواع الذكر من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار والمشي  إلى المساجد..
وإذا جمع الإنسان القيام ولين الكلام وإطعام الطعام لله تعالى دخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة غُرفًا يرى ظاهرها من باطنها وبطونها من ظهورها قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى لله بالليل والناس نيام ".
أيها المسلمون، من كرامة شهر رمضان أن الله تكرم علينا فيه بإجابة الدعاء فاستجابة الدعاء تكريم فوق تكريم في الشهر الكريم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " وقال: " إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا " وقال: " من لم يسأل الله يغضب عليه ".
وللدعاء مذاق خاص في رمضان يعرفه المتضرعون إلى الله قبيل الإفطار والمنكسرون بين يديه وقت الأسحار والباكون أمام ربهم بعد طول القيام وفي أدبار الأوتار، وكلما مرت أيام رمضان استكثر المحبون من الدعاء فاستكثروا من الخير.
وللدعاء أوقات ترجى فيها الإجابة منها: وقت السحر، وليالي رمضان، وعند النداء للصلاة، وبين الأذان والإقامة، وفي السجود، وبعد الانتهاء من الصلاة، وفي يوم الجمعة، وعند الانتباه في الليل بعد النوم على طهارة..
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتقبل من ومنكم ويغفر لي ولكم ولوالدينا ولمشايخنا ولمعلمينا ولأحبابنا وللمسلمين أجمعين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أخي الصائم، هل لك في مناسبة تستدرك فيها ما فات من عمرك؟ هل لك في ساعات تضاعف الأعمال فيها بالآلاف والمئات، هل لك في أمسية تسلّم عليك فيها الملائكة وسيد الملائكة جبريل ويدعون لك ويؤمِّنون على دعائك؟ هل لك في لحظات إن وافقتها أخرجتك من ذنوبك كلها؟ هل لك في ليلة لا تدرك قدرها العقول ولا تفي بوصفها الألسنة؟
إنها ليلة القدر " وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر ِ" إنها الليلة المباركة التي تنزل فيها الكتاب المبارك " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ " فهي ليلة مباركة لأن القرآن أنزل فيها ولأن الله العظيم عظّمها وجعلها خيرًا من ألف شهر.
وهي ليلة مباركة لأن الملائكة تعمر الأرض فيها وتغمرها فيتوافد سكان السماء على سكان الأرض من المؤمنين حتى إن أفضل الملائكة وأشرفهم وفي مقدمتهم جبريل عليها السلام يهبطون من كل سماء فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس ويسلّمون على أنفسهم وعلى المؤمنين حتى يطلع الفجر.
وهي ليلة مباركة لأنها ليلة الحُكم الجامعة بين حكم الله القدري وحكمه الشرعي فقد تنزل القرآن فيها بالأحكام الشرعية وفيها أيضًا تتنزل الأحكام القدرية حين يفصل فيها كل أمر حكيم من اللوح المحفوظ إلى الكَتَبة بما يكون من أمر السنة في الآجال والأرزاق والأعمال.
ومن بركتها أن من قامها وأحياها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها أن تدعو فيها بهذا الدعاء " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ".
فيا من فرط في رمضان هل ستفرط في ليلة القدر! يا من قصر في رمضان أما تخشى أن يخرج عليك رمضان ولم يغفر لك! أما آن لك أن تبكي على خطيئتك! أما آن لك أن تأوي إلى الله وتفيء إلى عفو الله وتطلب رحمة ربك!
تدارك نفسك، أنقذ نفسك من النار، فلم تبق إلا أيام من الشهر الكريم، اشتر نفسك من الله واعتذر لربك قبل أن يأتي يومٌ لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون..
فنافس المتنافسين وسابق السابقين وتقدم بين يدي رب العالمين وقل لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين..
اللهم إنا نسألك بعزك وذلنا وغناك وفقرنا وقوتك وضعفنا إلا ما رحمتنا..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..  

الجمعة، 1 يونيو 2018

شهر التغيير

شهر التغيير
١٦|٩|١٤٣٩هـالموافق ١|٦|٢٠١٨م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب / محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، يأتي رمضان ليمنحنا فرصة في التغيير الشامل في الأفكار والهموم والأخلاق والعلاقات والعبادات.. فهو فرصة للإقبال على الله والتوبة من الذنوب والخروج من الظلمات والتحرر من العبودية للشيطان الرجيم، وإذا لم يتب الإنسان في رمضان فمتى يتوب! وإذا لم يرجع إلى ربه في شهر الخير فمتى يئوب!
وأول ما يجب تغييره في رمضان الأخلاق السيئة فيجب التخلص منها واكتساب الأخلاق الحسنة والتدرب عليها فهذا الدين دين الأخلاق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " وفي رواية " مكارم الأخلاق ".
والخلق الحسن هو بذل المعروف وكف الأذى وطلاقة الوجه، وهو مخالطة الناس بالجميل والبشر والتودد لهم والإشفاق عليهم واحتمالهم والحلم عنهم والصبر عليهم في المكاره وترك الكبر والاستطالة عليهم ومجانبة الغلظة والغضب والمؤاخذة.
وتغافل عن أمور إنه *
لم يفز بالحمد إلا من غفلْ
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا فكان خلقه القرآن وما تفرق من مكارم الأخلاق في أكارم العالمين من الأنبياء والأتقياء والصالحين تجمع في شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم.
ورمضان فرصة لتجديد العلاقة مع القرآن، فكيف أنت مع القرآن؟ كم تقرأ في اليوم والليلة؟ هل لك ورد من القرآن لا تتركه؟
لقد فهم السلف الصالح أن وظيفة رمضان الكبرى هي الاعتناء بالقرآن فكانوا يقومون به بالليل ويتلونه ويعملون به بالنهار وكان الغالب عليهم في رمضان القراءة والصلاة والصدقات سئل الزهري رحمه الله عن العمل في رمضان فقال: " إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام ".
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: " إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها بالنهار ".
وكان السلف يحزّبون القرآن، والحزب أو الورد قدر ثابت من القراءة كل يوم يوصل إلى ختم القرآن في شهر أو عشر ليال أو سبع أو خمس أو ثلاث – مثلًا-.
فليكن لك ورد من القرآن في رمضان وفي غير رمضان لا تتركه قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل ".
ورمضان فرصة لتربية الأولاد ورعاية الأسرة والاهتمام بها في العبادات والأخلاق وتوجيههم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر قال تعالى: " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقًا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى " وأشاد القرآن بإسماعيل عليه السلام لأنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة..
ورعاية الأسرة والاهتمام بها واجب في رمضان وغير رمضان لكنه في رمضان آكد لأنه فرصة للتغيير والهداية وتقويم السلوك والأخلاق وتجديد الإيمان وزيادته..
ورمضان بمثابة مخيم إيماني للأسرة لمدة شهر كامل فعلى رب الأسرة متابعة الأولاد في الصلاة والصيام وقراءة القرآن واستغلال الوقت والاستفادة من رمضان وعليه حمايتهم من لصوص الأوقات الذين يسرقون القلوب في أيام الطاعة ومواسم الخير وساعات الإقبال على علام الغيوب.
ورمضان فرصة لصلة الأرحام وإصلاح ذات البين وتناسي الخصومات وفتح صفحة جديدة من الود والصفاء والتسامح فصلة الأرحام من المعالم الكبرى للرسالة المحمدية قال أبو سفيان لهرقل لما سأله بم يأمركم؟ قال: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف.
وقال تعالى: " والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " فصلة الأرحام برهان صلاح الباطن بخشية الله والخوف من سوء الحساب وصلاح الظاهر بحسن الخلق، والواصلون يصلهم الله ويرحمهم ويدافع عنهم ويكرمهم ويزيد أرزاقهم وأعمارهم ويحميهم من الكوارث والمصائب والآفات قالت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لها عند نزول الوحي عليه أول مرة: " لقد خشيت على نفسي " قالت: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
ومن وصل رحمه وصله الله ومن قطع رحمه قطعه الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذِ بكَ من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذاك لك " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقرأوا إن شئتم ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ).
والصلة تحتاج إلى جهد كبير للإبقاء عليها صافية نقية وتحتاج إلى جهد أكبر لإعادتها إلى ما كانت عليه إذا عصفت بها العواصف حيث تبرز الحاجة لإصلاح ذات البين.
ورمضان من أعظم مناسبات هذا الإصلاح فهو موسم مهيـأ للبر والصلة وترميم العلاقات مع الأهل والأرحام. وشر القطيعة قطيعة الوالدين وهي أكبر الكبائر بعد الشرك. وأي صيام ينفع وأي قيام يفيد وأنت قاطع لوالديك!
فلا تضيع صيامك بقطعهما بل صل نفسك بوصلهما فالجنة في رضائهما وخاصة الأم التي لا تُؤَم الجنة دون رضاها ولا يَشُم شذَاها من آذاها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الزمها؛ فإن الجنة تحت رجليها ".
وإذا قطعت رحمك فلا تقطعها وإذا أساءت فلا تسئ إليها فليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. وكان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.
وشد المئزر كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد لها زيادة عن المعتاد، وأيقظ أهله يعني نبههن للعبادة وحثهن عليها.
وكان يعتكف في العشر الأواخر ليتفرغ للعبادة والاعتكاف هو عكوف النفس على الطاعة والمراقبة والمحاسبة والتفكر وروح الاعتكاف هو تخلية القلب لله والإلحاف في طلب عفوه والإلحاح في نيل رضاه قال عطاء - رحمه الله - : مثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم فجلس على بابه ويقول: لا أبرح حتى تقضي حاجتي، وكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي.
نسأل الله أن يغفر لنا أجمعين ويهب المسيئين منا للمحسنين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم أعتق رقابنا من النار واجعلنا من عتقاء شهر الصيام، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 25 مايو 2018

أوقاتك في رمضان

أوقاتك في رمضان
٩|٩|١٤٣٩هـالموافق ٢٥|٥|٢٠١٨م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب / محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، رمضان شهر شريف استمد حرمته ومكانته من نزول كلام الله تعالى فيه قال سبحانه: " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ".
فحُقَّ لشهرٍ تنزلت فيه آيات الهداية والبيان لكل بني الإنسان أن تكون لأوقاته حرمتُها وعظمتها عندهم جميعًا.
ولهذا فإن للزمان في رمضان خصوصية وقيمة، فمن أضاع أوقاته فقد قصر وظلم نفسه، ومن قصر في رمضان فهو في بقية عمره أكثرُ تقصيرًا، وإذا غفِل عن تصرّم أوقاته وضياع ساعاتِه فهو دليل على ذهوله عن ملاحظة مراحل سفره بين انطلاقه ووصوله.
فراقب مسيرةَ عمرك وقارنه بمسيرة شهرك، وكيف قضاءُ وقتِك فيه لتعلم أين أنت؟
قال ابن القيم رحمه الله: " العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر إلى ربه ومدة سفره هي عمره والأيام والليالي مراحل فلا يزال يطويها حتى ينتهي السفر، فالكيّس لا يزال مهتمًا بقطع المراحل فيما يقربه إلى الله ليجد ما قدّم حاضرًا، ثم الناس منقسمون إلى أقسام منهم من قطعها متزودًا بما يقربه إلى دار الشقاء من الكفر وأنواع المعاصي، ومنهم من قطعها سائرًا فيها إلى الله وإلى الدار الآخرة، وهم ثلاثة أقسام: سابقون أدوا الفرائض وأكثروا من النوافل بأنواعها وتركوا المحارم والمكروهات وفضول المباحات، ومقتصدون أدوا الفرائض وتركوا المحارم، ومنهم الظالم لنفسه الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا وهم في ذلك متفاوتون تفاوتًا عظيمًا ".
فإذا كنتَ في شهرك وبقية عمرك من السابقين " فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ " وإن كنت فيهما من المقتصدين أصحابِ اليمين " فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ " وأما إن كنت من الظالمين المضيعين لساعاته وأوقاته فعجِّل بالرجوع وأسرع بالتوبة قبل أن يكون رمضانُ لك خصمًا والقرآنُ لك خصيمًا قال ابن رجب رحمه الله - مناديًا من أضاع أوقاتَه في رمضان - وهو لما سواها في الغالب أضيع: " يا من ضيع عمره في غير طاعة، يا من فرط في شهره بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط وبئس البضاعة ! يا من جعل خصمَه القرآن وشهرَ رمضان، كيف ترجو من جعلتَه خصمَك يوم الشفاعة ! " .
إننا نبتلَى في رمضان بالاختيار بين هدى الله عز وجل وهديِ رسوله صلى الله عليه وسلم وبين نزَعات النفس ونزَعات الهوى فلا تغلبنّك الأهواء - أخي الصائم - على رأس مالك الذي هو دقائق عمرك.
أُعطيتَ مُلكًا فسُسْ ما أنت مالكُه
من لم يسُس ملكَه فالملكُ قاتلهُ
وبادر العمرَ فالساعاتُ تنهبُه
ما انقضى بعضُه لم يبقَ كاملهُ
وليس ينفع بعد الموت عضُّ يدٍ
من نادمٍ ولو انبتّتْ أناملهُ
فالله تعالى يريد منا أن نتباعد عن مساخطه وما يغضبه في أيام الصيام " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " ويريد أقوام أباعد ممن يتبعون الأهواء والشهوات أن يباعدونا فيه عن الطاعة والتقوى بعرض الفتن على القلوب في الإذاعات والفضائيات وغيرها من ملتقيات الغفلة ومنتديات الإسفاف "  يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ".
إن رمضان تلوح فيه فرصة نادرة لمريد اغتنام الأوقات واستثمار الأعمار، فرمضان عمرٌ قصير وأجلٌ محدود، له بداية منتظرة، ونهاية معروفة، فإذا نحن أضعناه فقد غبنّا أنفسنا وظلمنا أرواحنا إذ لم ننصفها من أجسادنا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ".
وقد يكون الإنسان صحيحًا لكنه غير متفرغ لانشغاله بأمر المعاش وقد يكون متفرغًا لغناه ولكنه غير صحيح فإذا اجتمع له الصحة والفراغ فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، نعوذ بالله من الغبن والخسارة وفوات الأجر..
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، إن رمضان ميزان ومقياس نقيس به مدى الغبن الحاصلِ في الأعمار والأوقات، فهناك من يُغبَن في عشره الأُوَل على أمل أن ينشط في أوسطه أو آخره، فيقصِّر في نوال الفضل، وهناك من ينشط في أوله ويكسل في أوسطه وآخره، انشغالًا عن الطاعات أو استثقالًا للعبادات، وهناك من يَغبِن نفسَه الشهرَ كلَّه فيخرج منه كما دخل فيه، بل ربما أسوأ مما دخل فيه، لأنه هجر القرآن في شهر القرآن، وأفطر قلبه وإن صام بدنُه، وترك السهر في عبادة الله وسهر في وادي الغفلة ودوَّنَ اسمَه في ديوان الغافلين.
يا مُذهبًا ساعاتِ عمرٍ ما لها
عِوَضٌ وليس لفوتِها إرجاعُ
أنفقتَ عمركَ في الخسار وإنه
وجعٌ ستأتي بعده أوجاعُ
إن شهر الصيام مقياس وميزان يمكننا به أن نقترب من المنزلة التي نحب أن نضع أنفسنا فيها في سائر عمرنا، ولا شك أن منزلة السابقين هي التي تشرئب إليها الأفئدة وتمتد إليها الأعناق فيمكننا أن نعرِّض أنفسنا لها ونعرض أنفسنا عليها في رمضان أداءُ للفرائض كاملة وإكثارًا من النوافل مع اجتناب المحرمات وترك المكروهات فإذا نجحنا في استغلال أوقات الشهر الكريم في ذلك فلعل النفس تتوطن به على الانتظام في مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم أعتق رقابنا من النار واجعلنا من عتقاء شهر الصيام، اللهم إنا نسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لنا..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 18 مايو 2018

فضل رمضان

فضل رمضان
٢|٩|١٤٣٩هـالموافق ١٨|٥|٢٠١٨م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب / محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، قال الله عز وجل في بيان فرض الصيام والغايةِ منه " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " فهو عبادة مفروضة علينا وعلى من قبلنا لما فيها من المصالح والمنافع الكثيرة والغاية منها هو تحقيق التقوى والوصول إلى أعلى درجات الإيمان واليقين والصبر والعبادة..
ورمضان شهر القرآن فيه نزل والقراءة فيه دأب الصالحين من الأولين والآخرين وقد حفظت كتب التاريخ من أخبار العبّاد وأحوالهم في قراءة القرآن والقيام في رمضان وكثرة العبادة والضراعة والرغبة إلى الله ما يشد الهمة ويقوّي العزيمة على الرشد.
قال تعالى: " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ".
والقرآن أعظم كتاب نزل من السماء إلى الأرض أنزله الله حال كونه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فهدى به من الضلالة وعلم به من الجهل وفرق به بين الحق والباطل وأولياء الرحمن وأولياء الشيطان وبين الحقائق والأوهام وكشف به الزيف والخرافة فأشرقت الأرض بنور ربها وطلعت شمس الإيمان على المعمورة.
وبفضل رمضان جاءت الأحاديث الكثيرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان أولُ ليلةٍ من رمضان صُفِّدت الشياطين ومردةُ الجن وغلِّقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب وفتِّحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر. ولله عتقاء من النار. وذلك كلَّ ليلة ".
وهذا من خير رمضان وفتحِه ونصرِه ونورِه وبركتِه وهداه..
تقيد الشياطين ومردة الجن بالسلاسل والأغلال فتصير عاجزة عن الغواية، وتغلق أبواب النيران فتقل المعاصي والذنوب ويزيد معدّل الإيمان ويكثر الخير وتتيسر أسبابه ويقل الشر وتغلق أبوابه ويصعب الوصول إليه، وتفتح أبواب الجنان والرحمة فيكثر العمل الصالح والعبادات والأعمال الخيرية وينمو الدين ويشتد عوده وتورِق أشجارُه وتُزهر أغصانه بكثرة قراءة القرآن وما يترتب على قراءته من الآثار الطيبة في النفس وذلك بسبب الصيام والقيام وتلاوة القرآن. وأقرب ما يكون العبد من ربه في رمضان وأقرب ما تكون هذه الأمة من ربها في رمضان وفي رمضان تحققت معظم انتصارات هذه الأمة: غزوة بدر الكبرى وفتح مكة المكرمة وغيرها من التحولات الكبيرة في تاريخ الأمة.
وفي رمضان ينادي منادٍ من السماء حتى يكاد يسمعه أهل الأرض! يا باغي الخير أقبل؛ فهذا أوان السعي المشكور والقرب من الغفور الشكور. ويا باغي الشر أقصر؛ فهذا أوان التوبة من الذنوب والرجوع إلى علام الغيوب.
ولله عتقاء يعتق الله رقابهم من النار ويعفو عنهم ويغفر لهم ذنوبهم المتقدمة والمتأخرة والظاهرة والباطنة والصغيرة والكبيرة.. وذلك العتقُ في كلِّ ليلة من ليالي رمضان.
اللهم أعتق رقابنا من النار وحط عنا الاغلال والآصار وامحُ عنا الخطايا والأوزار يا خيرَ غفار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه ".
فهذه ثلاث عبادات شرطها الإيمان والاحتساب وثوابها أعظم ثواب وهو مغفرةُ جميع الذنوب وهو مطلب كل مسلم قال إبراهيم عليه السلام: " وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ".
وفي الصيام والقيام صلاحُ الظاهر والباطن وعِمارةُ القلب والجوارح وتهذيبُ النفس والهداية لأحسن الأخلاق، فالصيام يشرح الصدر ويقوي العزيمة على الخير والهدى.
والقيام بين يدي الملك العلام تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء.
ولا وسيلةَ تُصْلح الإنسان وتقوّم سلوكَه مثلُ الصلاة قال تعالى: " إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ" وقال تعالى:" إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ".
ولهذا قال إبراهيم عليه السلام:" رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ".
فكم مرة دعونا لأنفسنا وأولادنا بهذا الدعاء المبارك!
ومن فضل الصيام أن الأعمال كلها تضاعف إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإن الله يضاعفه أكثر من سبعمائة ضعف؛ لأنه من الصبر وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
أيها المسلمون، قضية فلسطين حاضرة في ضمير الأمة وهي القضية التي تجمع ولا تفرق ومهما كانت التحديات والمؤامرات فالأمة لا يمكنها التخلي عن قضيتها، وفي فلسطين مؤمنون صابرون قدموا آلافَ الشهداء ومستعدون لتقديم أكثر منهم حتى يحكم الله بينهم وبين عدوهم والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More