الأمن والإيمان
المكان : جامع الرحمة بالشحر
الزمان : 3/5/1434هـ الموافق 15/3/2013م
الخطبة الأولى
أيها المسلمون ، الأمن نعمة عظيمة بدأت بها دعوة إبراهيم - عليه السلام - وهو يدعو لمكة وأهلها ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا ﴾ ، أمن البلد كفيل بتحقيق المصالح الكبرى , من قيام الدين , وسلامة الأرواح , وحماية الأموال , وصيانة الأعراض , وسلامة العقول ، والخوف والرعب والفوضى والإرهاب كفيل بجلب المفاسد , وتضييع المصالح , فلا يقوم دين , ولا تسلم روح ، ولا يصان مال ، ولا تحفظ كرامة , ولا يسلم عقل .
وفي موضع آخر نجد إبراهيم - عليه السلام - يقرن في دعوته بين الأمن والسلامة من الشرك ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ , فنعمة الأمن نعمة ماسة بالإنسان ، عظيمة الوقع في حسه ، متعلقة بحرصه على نفسه , والأمن والإيمان قرينان ، متى حضر الإيمان حضر الأمان , ومتى غاب الإيمان غاب الأمان , ومتى ضعف الإيمان ضعف الأمان ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ , الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله ، لا يخلطون بهذا الإيمان شركًا في عبادة ولا طاعة ولا اتجاه , هؤلاء لهم الأمن ، وهؤلاء هم المهتدون .
ولأهمية الأمن في حياة الناس وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بالأمن كلما هل هلال , فقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى الهلال قال : الله أكبر , اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان , والسلامة والإسلام , والتوفيق لما يحب ربنا ويرضى , ربنا وربك الله .
إنه دعاء من كنوز السنة النبوية ، دعاء لا يقدر عليه إلا من أوتي جوامع الكلم , واختصر له الحديث اختصارًا ، دعاء يفيض بالإيمان , والعبودية , والتوحيد , والإنابة , والضراعة , والإخبات , دعاء عظيم من رسول عظيم .
حقًا ، الله أكبر ، لا يأفِل ، لا يغيب ، لا يزول ، لا ينسى ، لا يفنى ، الله أكبر ، على نعمة الحياة والسنين ، الله أكبر على نعمة الإيمان والتوحيد ، الله أكبر على نعمة الأمن ، الله أكبر على نعمة العافية ، الله أكبر على نعمة السلامة من العلل والآفات ، الله أكبر .. كلمة غاب عنا معناها وبقيت صورتها ، وما تغني صورتها عنا ؟
اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، الأمن الشامل ، الأمن العام ، أمن الدين , وأمن النفس , وأمن العرض , وأمن العقل , وأمن المال، أمن الغذاء ، أمن الكساء ، أمن الدواء ، أمن متطلبات الحياة ، أمن المعيشة .
اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، الإيمان الذي يصنع الأمان ، والإيمان الذي ينشر الأمن في النفس والمشاعر , ويبث الأنس في القلوب والضمائر , الإيمان الذي ينشر السكينة والطمأنينة ، ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ , والإيمان نعمة يختص الله بها من يشاء من عباده ، وكثيرًا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو فيقول : اللهم زينا بزينة الإيمان , واجعلنا هداة مهتدين ، ويقول : اللهم حبب إلينا الإيمان , وزينه في قلوبنا , وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين .
اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان , والسلامة والإسلام ؛ السلامة من الآفات ؛ السلامة من العلل والأمراض والعاهات ؛ السلامة من العيوب والنقائص ؛ السلامة من الأزمات ؛ السلامة من الكوارث .. ( السلامة والإسلام ) ، يا لها من كلمات عذبة , قليلة الحروف كثيرة المعاني !
لقد كثر الكلام عن السلام , ولا سلام إلا في الإسلام ، فالإسلام هو دين السلام , ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ﴾ , ما أدق هذا التعبير وأصدقَه ! إنه ( السلام ) الذي يسكبه هذا الدين في الحياة كلها , سلام الفرد , وسلام الجماعة , وسلام العالم , سلام الضمير ، وسلام العقل ، وسلام الجوارح , سلام البيت والأسرة ، وسلام المجتمع والأمة ، وسلام البشر والإنسانية , السلام مع الحياة , والسلام مع الكون , والسلام مع الله رب الكون والحياة, السلام الذي لا تجده البشرية - ولم تجده يومًا - إلا في هذا الدين , وإلا في منهجه ونظامه وشريعته ، ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته .
حقًا , إن الله يهدي بهذا الدين من اتبع رضوانه ( سبل السلام ) سبل السلام كلها , في هذه الجوانب جميعها . ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق سبل الحرب في الجاهليات القديمة أو الحديثة , ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق حرب القلق الناشئ من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير , وحرب القلق الناشئ من شرائع الجاهلية , وأنظمتها , وتخبطها في أوضاع الحياة .
وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرة يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام .
وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة , والجاهلية من حولنا تذيق البشرية الويلات, من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات , قرونًا بعد قرون !
إننا نعاني من ويلات الجاهلية , والإسلام منا قريب , ونعاني من حرب الجاهلية , وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء ,
ومن العجائبِ ، والعجائبُ جمةٌ * قُربُ الحبيبِ وما إليه وصولُ
كالعيسِ في البيداء يقتلها الظمأ * والماء فوق متونها محمول ُ
اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والتوفيق لما يحب ربنا ويرضى ، التوفيق ، وما أدراك ما التوفيق ؟ لا يشترى بمال ، ولا يدرك بالعبقرية ، وإنما هو توفيق من الله ، لا يملكه إلا الله، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يطلبه ممن يملكه كما كان يسأل الله من فضله ورحمته ويقول : اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك ؛ فإنه لا يملكها إلا أنت .
والبحث عما يحب ربنا ويرضى علامة فارقة بين المؤمنين والكافرين , وبين العابدين والساهين ، شتان بين باحث عن رضا الله وباحث عن رضا الناس .
وختم النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاءه بقوله : ربنا وربك الله ، نعم ، ربنا وربك الله . أقول قولي هذا وأستغفر الله ..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون ، يهمنا أمن بلدنا ، وتهمنا سلامة الناس ، وتهمنا مصالح الناس ، وندعو عموم المسلمين إلى الالتزام بأحكام الإسلام ، فالحلال بيّن , والحرام بيّن , والحلال ما أحله الله ، والحرام ما حرمه الله ، ولا مبدل لكلمات الله .
وندعو إلى الالتزام بالخيار السلمي , ونحذر من جر البلاد إلى مربع العنف والفوضى التي تعود على المطالب العادلة بالإبطال ، وتفتح المجال للألعاب السياسية الكبرى .
علينا أن نفكر بروية ، ونتصرف بحكمة ، ونقدر مصالح الناس ، فالتعطيل المتكرر للمدارس والأسواق والحياة العامة ليس في مصلحة الناس ، والاعتصام يحتاج إلى نظام تراعى فيه حجم الأضرار المترتبة عليه ، ولا بد أن يكون اختيارًا لا إجبارًا ، وإذا كان هناك اعتصام فلا بد أن يكون وفق الضوابط الشرعية , فالاعتصام أسلوب عصري جماعي يعبّر الناس من خلاله عن تمسّكهم بقضيتهم وملازمتهم لها ، وهو أسلوب سلمي من أساليب الإنكار أو عزل الحاكم أو النظام .
وصورته : المرابطة أو المكث في مكان معين لمدّة من الزمن تعبيرًا عن موقف ما , بشرط أن لا يتعدّى حدود العمل السلمي , وقد يتصاعد إلى إغلاق المتاجر والمحلات اختيارًا , فيأخذ صورة الإضراب.
وله ضوابط ، منها أن تكون أهدافه ووسائله مشروعة , ومنها أن يكون مدروسًا ؛ تراعى فيه المصالح والمفاسد ، ومنها أن يغلب على الظن نجاحه ، ومنها أن يكون اختيارًا ، ومنها أن تكون فترته مقبولة ؛ لا تضر بمصالح الناس ، ومنها أن لا يترتب عليه ضرر عام .
والخيار السلمي بطئ المفعول , لكنه مضمون النتائج .
وأذكّر نفسي وإخواني بحرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وحرمة إتلاف الممتلكات العامة أو الخاصة ، وأدعو الجميع إلى المحافظة على أمن البلد ورعاية مصالح الناس.
وأنا على ثقة أن الناس في هذه البلدة على مستوى من الوعي والتدين والمسئولية .
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى .
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق