تعديل

الشيخ محمد سعيدباصالح

الجمعة، 1 فبراير 2019

حديث أم زرع

حديث أم زرع ٢٦|٥|١٤٤٠هـالموافق ١|٢|٢٠١٩م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون.. (عن عائشة رضي الله عنها قالت: جلست إحدى عشرةَ امرأةً، فتعاهدْنَ وتعاقدْنَ أن لا يكتُمن من أخبار أزواجهن شيئًا. قالت الأولى: زوجي لحمُ جملٍ غَث) أي مهزول (على رأس جبلٍ وعر) أي لا يوصل إليه إلا بتعب ومشقة (لا سهلٍ فيرتقَى ولا سمينٍ فينتقَل) أي ليس بسمين يرغب الناس فيه ويتناقلونه إلى بيوتهم. وصفَتْ زوجها بقلة الخير وسوء الخلق والكِبْر والتِيه على أهله. (قالت الثانية: زوجي لا أبُثُّ خبره) أي لا أنشر خبره كيلا يفتضح (إني أخاف أن لا أذره) أي أخاف أن لا أتوقف عن الكلام لكثرة عيوبه (إن أذكره أذكر عُجَرَه وبُجَرَه) أي عيوبَه الباطنة وأسراره. وصفت زوجها بكثرة العيوب الظاهرة والباطنة. (قالت الثالثة: زوجي العَشَنَّق) وهو الشرس الطويل المفرط الطول الضعيف العقل فهو طويل بلا فائدة (إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق) وصفت زوجها بالطول المفرط مع سوء الخلق وقلة النفع والفائدة. (قالت الرابعة: زوجي كلَيل تهامة، لا حَرَّ ولا قُر، ولا مخافةَ ولا سآمة) أي لا حر ولا برد ولا خوف ولا ملل. وصفت زوجها بحسن الخلق ودوام الأمن معه والسلامة من الأذى. (قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهِد، وإن خرج أسِد، ولا يسأل عما عهِد) فشبَّهتْ زوجها بالفهد في لين الجانب؛ لأن الفهد لين المس كثير السكون، وبالأسد في الشجاعة وهو مع ذلك كريم لا يسأل عما ترك بالبيت من زاد وطعام. وصفتْ زوجها باللين والكرم والتغافل وقلة العتاب مع الشجاعة المفرطة. (قالت السادسة: زوجي إن أكل لَفّ) أي: ضم وخلط صنوف الطعام بعضها ببعض (وإن شرب اشتَف) أي استقصى ولم يترك شيئًا (وإن اضطجع التَفّ) أي ينام ناحيةً ملتفًّا بثوبه، لا يضاجعني ولا يتحدث معي (ولا يولج الكفَّ ليعلم البثَّ) أرادت لا يدخل يده في أموري ليعرف ما أكرهه ويصلحه -. وصفت زوجها بكثرة الأكل والشرب والأنانية وقلة الشفقة والإهمال العاطفي.   (قالت السابعة: زوجي عياياء) من العِي وهو العجز والحُمْق (أو غياياء) وهو العاجز الذي لا يهتدي لأمر كأنه في ظلمة (طباقاء) وهو الأحمق الذي انطبقت عليه الأمور فلا يهتدي إلى الخروج منها (كل داءٍ له داء) أي العيوب المتفرقة في الناس مجتمعه فيه (شجَّكِ أو فلَّكِ، أو جمعَ كلًّا لكِ) والشج: الجرح في الرأس والوجه، والفَلّ: الكسر. وصفت زوجها بالعجز والحمق وضعف البصيرة والعنف المفرط والقسوة. (قالت الثامنة: زوجي المسُّ مسُّ أرنب، والريح ريح زَرنَبٍ) أي هو مثل الأرنب في اللين وحسن الخلق ومثل نبات الزرنب في طيب الرائحة. وصفت زوجها بلين الجانب وحسن الخلق وطيب الرائحة والعناية بالنظافة. (قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد) كنّتْ بارتفاع عمود خيمته عن شرفه وارتفاع بيته (عظيم الرماد) كنَّتْ بكثرة الرماد عن الكرم والجود وكثرة الضيوف الذين ينتابون بيته وكثرة ما يطبخ في داره من أنواع الأطعمة (طويل النجاد) كنّتْ بطول حمالة سيفه عن امتداد قامته وحسن منظره (قريب البيت من الناد) والنادي والمنتدى: مجلس القوم ومجتمعهم، كنّتْ بقرب بيته من مجلس القوم عن مكانته الاجتماعية وشهرته. وصفت زوجها بطول القامة وجمال المنظر والفروسية والشجاعة والجود والكرم والشرف والمكانة الاجتماعية. (قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك!) أرادت به تعظيمه والتعجب من أمره (مالك خير من ذلك) أي: هو فوق ما يوصف به من الجود والأخلاق الحسنة (له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح) أي أنه يتركها تبرك بفنائه لتكون معدة للضيفان فيطعمَهم من لحومها وألبانها، وقلَّ ما يسرِّحها لئلا يتأخر القِرى لبُعدها (إذا سمِعنَ صوت المـِزْهَر أيقَنَّ أنهن هوالِك) والمِـزهَر: آلة من آلات اللهو، والمقصود أن إبله قد اعتادت منه إكرام الضيفان بالنحر لهم وبسقيهم وإتيانهم بالمعازف، فإذا سمعتْ صوت المعازف أيقنتْ بالنحر. وصفت زوجها بالجود والكرم وكثرة المال والأخلاق الحسنة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون.. (قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع، فما أبو زرع! أناس من حُلِيٍّ أُذُنَيَّ) أي حرّك أذني بما حلاهما به من القِرَطة (وملأ من شحمٍ عَضُدَيَّ) أي سمَّنَنِي بحسن التعهد (وبجَّحني فبجِحتْ إليَّ نفسي) أي عظَّمني فعظُمتُ عند نفسي (وجدني في أهل غُنَيمةٍ بشِق) أي في مشقة وفقر (فجعلني في أهل صهيلٍ، وأطيطٍ، ودائسٍ ومُنِقٍ) والدائس: الذي يدوس الطعام بعد الحصاد، والمنق: وهو الغربال. والمقصود أني كنت في قومٍ قليلي العدد والمال، فلم يأنف من فقر قومي وضعفهم، فنكحني ونفاني إلى قومه، وهم أهل خيل وإبل وزروع، والصهيل: صوت الخيل، والأطيط: صوت الإبل (فعنده أقول فلا أقبَّح) أي لا يُرد قولي ولا يقال لي: قبَّحَكِ الله (وأرقد فأتصبَّح) والتصبح: نوم الصُّبحة، وهو أن تنام بعدما تصبح، تريد أنها مخدومة مَكفِيَّة المؤنة لا تحتاج إلى البكور (وأشرب فأتقمَّح) أي أرفع رأسي عن الإناء للرِّي والاستغناء عن الشرب. (أم أبي زرعٍ فما أم أبي زرع! عكومها رداح، وبيتها فساح) والعكوم: الأحمال والأعدال التي فيها الأمتعة، رداح: أي عظيمة ممتلئة، وبيتها فساح أي واسع. وصفتْ أمَّ زوجها بالغنى والرفاهية والجود والسخاء والعناية بالبيت. (ابنُ أبي زرعٍ فما ابن أبي زرع! مضجعه كمِسَلِّ شطبة)ٍ أي كشطبة مسلولة، والشطبة: ما ينزع من القضبان الدقاق من جريد النخل، ينسج منها الحُصُر أو هو كالسيف المسلول (ويشبعه ذراع الجفرة) وهي الماعز إذا بلغت أربعة أشهر وفصلت وأخذت في الرعي. وصفتْ ابنَ زوجها بقلة الطعام والشراب وخفة الجسم وهو محمود عند العرب. (بنت أبي زرعٍ، فما بنت أبي زرعٍ! طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها) أي تملأه بكثرة اللحم (وغيظ جارتها) أي يغيظ ضرتها ما ترى من جمالها وعفتها. وصفتْ بنت زوجها بالسِّمن والرخاء والرفاهية والجمال والأخلاق والعفة. (جاريةُ أبي زرعٍ، وما جارية أبي زرع! لا تبث حديثنا تبثيثًا) أي لا تنشر أخبار البيت وتذيعها (ولا تنقِّثُ ميرتنا تنقيثًا) أي لا تنقل طعامنا وتسرع فيه بالخيانة ولا تغفل عنه فيفسد (ولا تملأ بيتنا تعشيشًا) أي أنها تهتم بالبيت وترتبه ولا تترك القمامة مرمية هنا وهناك. وصفتْ جارية زوجها بكتم السر والأمانة وحسن التدبير وتعهد الطعام والمحافظة عليه وترتيب البيت والعناية به والاهتمام بالنظافة. ووصفتْ زوجها بالغنى وكثرة المال وجمال الأخلاق وحسن العشرة وكمال الأدب وتقدير المرأة وبر الوالدة والعناية بالأولاد.. (قالت: خرج أبو زرعٍ والأوطاب تمخض) والأوطاب جمع وطْب وهو سقاء اللبن، وتمخض: أي تحرك لاستخراج الزُبْد (فلقي امرأة معها ولدان كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلًا سريًا) أي شريفا (ركب شريًا) وهو الفرس الفائق المختار (وأخذ خطيًا) وهو الرمح (وأراح علي نَعَمًا ثريًا) أي كثيرة (وأعطاني من كل رائحةٍ زوجًا!) أي من كل ماشية صنفًا (وقال: كلي أم زرعٍ وميري أهلك). وصفتْ زوجها الثاني بكثرة المال والمكانة الاجتماعية والشجاعة والجود لكنها لم تصفه بحسن الخلق.. (قالت: فلو جمعتُ كلَّ شيءٍ أعطانيه، ما بلغ أصغر آنية أبي زرع!) فيه أن الناس تبحث عن الخلق أكثر مما تبحث عن المال. (قالت عائشة: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كنتُ لك كأبي زرعٍ لأم زرعٍ) بأبي أنت يا رسول وأمي! بل أنت خير من أبي زرع ومن ألف أبي زرع. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 25 يناير 2019

بر الوالدة

بِر الوالدة ١٩|٥|١٤٤٠هـالموافق ٢٥|١|٢٠١٩م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، قال الله تبارك وتعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهذه وصية الله إليك أيها الإنسان.. فاجتهد في بر والديك والإحسان إليهما بالقول والعمل، فإن أمراك بالإشراك بالله فلا طاعة لهما في هذا الأمر، ويلحق بالشرك سائر المعاصي، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لأن حق الله أعظم من حق المخلوق. وللأم زيادة في البر؛ لأنها حملت ولدها وهنًا على وهن وحمله وفصاله في عامين.. فقد عانت من آلام الحمل والولادة والرضاع والفطام فحق لها أن يكون لها من البر أضعاف ما للأب.. عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: " يا رسول الله، مَن أبِرُّ؟ قال: أمَّك قلت: مَن أبِرُّ؟ قال: أمَّك قلت: من أبِرُّ؟ قال: أمَّك قلت: مَن أبِرُّ؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب ". وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بحُسن صحابتي؟ قال: أمّك. قال: ثم مَن؟ قال: ثم أمُّك. قال: ثم مَن؟ قال: ثم أمُّك. قال: ثم مَن؟ قال: ثم أبوك ". وعن عطاء بن يسار عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أتاه رجلٌ فقال: " إني خطبتُ امرأةً فأبتْ أن تَنكِحَني وخطبها غيري فأحبّت أن تَنكِحَه فغِرْتُ عليها فقتلتُها فهل لي من توبة؟ قال: أمُّك حيَّة؟! قال: لا قال تب إلى الله عز وجل وتقرَّب إليه ما استطعتَ قال عطاء: فسألتُ ابنَ عباس: لمَ سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملًا أقربَ إلى الله عز و جل من بر الوالدة! ". وعن طَيْسَلةَ بنِ ميَّاس قال: " كنت مع النَّجَدات - وهم فرقة من الخوارج - فأصبتُ ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر - يعني من شدة الغلو الذي عندي - فذكرتُ ذلك لابن عمر، قال: ما هي؟ قلت: كذا وكذا قال: ليست هذه من الكبائر! هن تسع: الإشراك بالله، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإلحاد في المسجد، والذي يستسخر، وبكاءُ الوالدين من العقوق. قال لي ابن عمر: أتَفرَقُ من النار وتحبُ أن تدخلَ الجنة؟ - يعني هل تخاف من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ - قلت: إي والله! قال: أحيٌّ والداك؟! قلت: عندي أمي. قال: فو الله! لو ألنتَ لها الكلام، وأطعمتَها الطعام، لتدخُلَنَّ الجنة ما اجتنبت الكبائر ". وعن سعيد بن أبى بُردة قال سمعتُ أبي يحدِّث: " أنه شهِدَ ابن عمر رجلًا يمانيًا يطوف بالبيت حَمَلَ أمَّه وراء ظهره يقول: إني لها بعيرُها المذلَّلْ * إن أُذعِرَتْ ركِابُها لم أُذعَرْ! ثم قال: يا ابن عمر، أتُراني جزيتُها؟! قال: لا ولا بزفرة واحدة! ". أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، دعوة الوالد على ولده مستجابة فلا تدعوا على أولادكم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاث دعوات مستجابات لهن لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولدهما ". وعن محمد بن شرحبيل أخي بني عبد الدار عن أبى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما تكلم مولود من الناس في مهد إلا عيسى ابن بن مريم صلى الله عليه وسلم وصاحب جريج قيل: يا نبي الله, وما صاحب جريج؟ قال: إن جُرَيجًا كان رجلًا راهبًا في صومعة له، وكان راعي بقر يأوي إلى أسفل صومعته، وكانت امرأةٌ من أهل القرية تختلف إلى الراعي - يعني تزني معه - فأتت أمُّه يومًا فقالت: يا جريج. وهو يصلي فقال في نفسه وهو يصلي: أمي وصلاتي! فرأى أن يؤثر صلاته ثم صرخت به الثانية فقال في نفسه: أمي وصلاتي! فرأى أن يؤثر صلاته ثم صرخت به الثالثة فقال: أمي وصلاتي! فرأى أن يؤثر صلاته فلما لم يجبها قالت: لا أماتك الله يا جريج حتى تنظر في وجه المـُومسات! - تعني الزانيات - ثم انصرفت فأتِي الملِك بتلك المرأة ولدت، فقال: ممَّن؟ قالت من جريج. قال: أصاحب الصومعة؟! قالت: نعم. قال: اهدموا صومعته وأتوني به, فضربوا صومعته بالفؤوس حتى وقعت، فجعلوا يده إلى عنقه بحبل! ثم انطلِقَ به فمر به على المـُومِسات! فرآهن فتبسم، وهن ينظرن إليه في الناس، فقال الملِك: ما تزعم هذه؟! قال: ما تزعم؟! قال: تزعم أن ولدها منك! قال: أنتِ تزعمين؟! قالت: نعم. قال: أين هذا الصغير؟ قالوا: هو ذا في حِجرها فأقبل عليه فقال: مَن أبوك؟ قال: راعي البقر. قال الملك: أنجعل صومعتك من ذهب؟! قال: لا. قال: من فضة؟ قال: لا. قال: فما نجعلها؟ قال: ردوها كما كانت. قال: فما الذي تبسمتَ؟ قال: أمرًا عرفتُه. أدركَتْني دعوةُ أمي! ثم أخبرهم.. ". ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 4 يناير 2019

الطلاق مرتان

الطلاق مرتان ٢٨|٤|١٤٤٠هـالموافق ٤|١|٢٠١٩م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، الطلاق مرتان ثم الزوج بالخيار بين أن يمسكَ المرأة بمعروف أو يسرحَها بإحسان.. وما دام الطلاق رجعيًا واحدة أو اثنتين فللزوج مراجعتها ما دامت في العدة من غير رضاها ولا رضا وليِّها.   فإن طلقها الثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره - نكاح رغبة لا نكاح تحليل - ويدخل بها ثم تبين منه بوفاة أو طلاق وتنقضي عدتها منه ثم إن شاءت عادت للأول. وأحكام الطلاق مبيَّنة في الكتاب والسنة.. لكننا نشهد بين الحين والآخر حالات من الطلاق الغريب الدال على الاستهتار بالرابطة الزوجية والاستخفاف بالأحكام الشرعية.. يطلق الرجل لأتفه الأسباب ويطلق ويراجع بلا حساب ويهدد بالطلاق عند كل غضبة قائلًا: إن دخلتِ فأنتِ طالق! أو إن خرجتِ فأنت طالق! أو يعلق الطلاق بجميع الأحوال فيقول: إن صعدتِ فأنتِ طالق وإن نزلتِ فأنتِ طالق وإن وقفتِ فأنتِ طالق! وآخر كلما غضب قال لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أمي أو أنتِ عليَّ حرام.. ثم إذا صدر منه الطلاق المنجَّز أو المعلَّق راح يسأل المفتِين، وإذا لم تعجبه فتوى ابنِ عمر سلكَ طريقَ ابنَ عباس! إن ابن عباس لا يستطيع أن يحلّلَ لك ما حرَّم اللهُ عليك.. عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاَثًا. قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ رَادُّهَا إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْحَمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)) وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ أَجِدْ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ. الزواج - أيها الناس - مسئولية عظيمة, والمرأة تحل بكلمة، وتحرم بكلمة، والمسألة ليست لُعبة.. والطلاق مرتان وليس سبعين مرة! وبعد الطلقتين إما وفاق واتفاق وإمساك بمعروف، أو طلاق وفراق وتسريح بإحسان. وبعض الناس يطلق ويعتذر فيقول: طلقتُ وأنا غضبان! يريد أن الغضب لا يمنع الطلاق.. وهو عذرٌ غريب! وهل يطلق إنسان وهو فرحان! إذا غضبتَ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. وبعض الناس يظن أن التهديد بالطلاق يوجب له المهابةَ في البيت، والرهبةَ والمخافة، والسمعَ والطاعة، ولا يدري المسكين أنه بذلك كسر القارورة، ولا يمكنه جبرُها بعد كسرها، فالقوارير لا تقبل التضبيب لا بالذهب ولا بالفضة. فعليكَ - أخي الكريم – بالرفق، وجميلِ القول والفعل، والصبرِ والحلم، والعفو والحكمة، وضعِ الحلولَ والمعالجاتِ المناسبةَ للمشاكل، وتجنب الغضبَ والانفعالَ، وإياك والطلاقَ فإنك تندم حيث لا ينفع الندم؛ فكم من إنسان طلّق في لحظة غضب ثم ندم، ولاتَ ساعةَ مندم! وترتب على طلاقه أن تفرقت الأسرة شذَرَ مذَرَ وذهبوا أيدي سبأ.. فليتقِ اللهَ كلُّ مسلم، ولا يتخذْ آياتِ الله هزوا.. قال الله عز وجل: ((وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، أكثرُ حالات الطلاق بسبب الغضب والانفعال، وبعض النساء إذا غضب زوجها غضبت معه، وزادت النارَ اشتعالًا، فإذا نطق حرفًا قالت بيتًا، وإذا قال كلمة ًأنشدت قصيدة، وينتهي الأمر بالطلاق، فيسكنُ الغضب، وينقلبُ الشيطانُ فرحانَ جذِلًا بما أوقعه من الفتنة.. عَنْ جَابِر بن عبد الله رضي الله عنهماٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ! وفي رواية: ((فَيَلْتَزِمُهُ)).. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 9 نوفمبر 2018

أفلا تتفكرون

((أفلا تتفكرون)) ١|٣|١٤٤٠هـالموافق ٩|١١|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، أمر الله تبارك وتعالى بالتفكر في آياته المنزلة من السماء وآياته المبثوثة في الكون وأخبر أن آياته الكونية وآياته المنزلة لا ينتفع بها إلا أصحاب العقول الكاملة الذي أعملوا عقولهم في الآيات البينات ودلائل القدرة في السموات والأرض فقال تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) وقال تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) وقال تعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)) وقال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ)). وشنَّع الله على أولئك الذين عطَّلوا عقولهم وبصائرهم وأفكارهم فلم يستدلوا بها على خالقهم ورازقهم سبحانه، ولم ينتفعوا بما يشاهدونه من آيات الله سبحانه في الآفاق وفي الأنفس، ولم يتدبروا آياته المتلوة وما فيها من النور والهدى والشفاء فقال تعالى: ((وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)) وقال تعالى: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)) وقال تعالى: ((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ)) وقال تعالى في الحث على إعمال العقل في تدبر القرآن: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) وقال: ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ)). والله تعالى يدعو عباده إلى التعرف على أسمائه وصفاته وآثارها عن طريق النظر في آيات الله المشاهدة في الآفاق والأنفس وما فيها من العظمة والحكمة والرحمة والإتقان وعن طريق النظر في آياته المتلوة في كتابه العزيز كما قال تعالى: ((كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)) وقال تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)). ومجالات التفكر  كثيرة جدًا.. منها التفكر في الآيات المتلوة قال تعالى: ((لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)). ومنها التفكر في آيات الله في الآفاق قال تعالى: ((وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)). ومنها التفكر في الإنسان وخلقه قال تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)). ومنها التفكر في آلاء الله ونعمه قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)). ومنها التفكر في سير الأنبياء مع أقوامهم قال تعالى: ((فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) وقال تعالى: ((وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)) وقال تعالى: ((وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ)) وقال تعالى: ((إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)) وقال تعالى: ((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)). ومنها التفكر في النفس ومحاسبتِها ومدى قبولها للحق والنظر فيما قدّمت وأخّرت من الخير والشر قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) وقال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)) وقال تعالى: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)) وقال تعالى: ((وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)). ومنها التفكر في الدنيا والآخرة وحقيقة كل منهما قال تعالى: ((كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) وقال تعالى: ((وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) وقال تعالى: ((إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)). ومنها التفكر في آيات الله الخارقة قال تعالى: ((فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) وقال تعالى: ((فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)) وقال تعالى: ((فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)) وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ((ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)). وقال الحسن البصري: ((تفكر ساعة خير من قيام ليلة )). وقال ابن عباس: ((ركعتان مقتصدتان في تفكُّر خيرٌ من قيام ليلة والقلبُ ساهٍ)). وعن أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز أنه بكى يومًا بين أصحابه، فسُئل عن ذلك، فقال: فكّرتُ في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرتُ منها بها، ما تكاد شهواتنا تَنْقَضي حتى تكدِّرَها مرارتُها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظَ لمن ادَّكر. وعن سلام قال: أُتي الحسن بِكُوزٍ من ماء ليفطر عليه، فلما أدناه إلى فيه بكى، وقال: ذكرتُ أمنيةَ أهل النار؛ قولَهم: ((أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ)) وذكرتُ ما أُجِيبوا: ((إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)). نعوذ بالله من حال أهل النار.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 2 نوفمبر 2018

اقتناص الفرص

اقتناص الفرص ٢٤|٢|١٤٤٠هـالموافق ٢|١١|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، الحياة فرص، وأعظم فرصةٍ في الدنيا فرصةُ الإيمان والعمل الصالح.. فرصةُ الدين واليقين.. فرصة التزود من الباقيات الصالحات.. فرصة الفوز برضا الرحمن الرحيم مالك يوم الدين.. فرصة أن يكون الله ورسوله أحب إلى المرء مما سواهما.. فمن الناس من حاز تلك الفرصة فأسلم وجهه وقلبه لله واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ففاز وذلك الفوز العظيم، ومن الناس من سفه نفسه وأضاع حظه فكفر بأنعم الله وغمس نفسه في الضلالات ونسي الله فنسيه الله حتى وافاه الأجل وجاءت سكرة الموت بالحق فخسر الدنيا والآخرة.. خسر نفسه وأهله ألا ذلك هو الخسران المبين.. ولا تزال تعرض للإنسان في حياته فرص، فرصة العلم النافع والإيمان الصادق، وفرصة التوبة والإنابة، وفرصة الصدقة في الأزمات، وفرصة كفالة الأيتام، وفرصة الصلاة وكثرة السجود، وفرصة الإكثار من قراءة القرآن وذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وقد تأتي الإنسان في حياته فرص نادرة لا تكاد تعود مرة أخرى فمن كان همه الآخرة تذكر لقاء الغفار ودار القرار وصحبة سيد الأخيار والأنبياء الأبرار ومن كان همه الدنيا تذكر الدنيا فسأل من متاعها ما لا يساوي عند الله جناح بعوضة.. والفرق بين همم العباد كالفرق بين السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع! أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعرابيًّا فأكرمه وقام بواجب الضيافة والقِرى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتنا) - يعني لنُكرِمَك ونَجزيَك أجرَ ما صنعتَ لنا - فأتاه يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سَلْ حاجتَك) قال: ناقةٌ نرَكَبُها وأعنُزٌ يحلِبُها أهلي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(أعَجَزْتُم أن تكونوا مثلَ عجوز بني إسرائيل) ؟ قالوا : يا رسول الله وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: (إن موسى عليه السلام لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا مَوثِقًا من الله أن لا نخرُجَ من مصر حتى ننقُلَ عظامَه معنا قال: فمن يعلمُ موضعَ قبرِه؟ قالوا: عجوزٌ من بني إسرائيل. فبعث إليها فأتته فقال: دُلِّيني على قبر يوسف قالت: حتى تعطيَني حكمي قال: وما حكمُكِ؟ قالت: أكون معك في الجنة فكره أن يعطيها ذلك فأوحى الله إليه: أن أعطِها حكمَها فانطلقت بهم إلى بُحَيرةٍ - موضِعِ مُستنقَعِ ماءٍ - فقالت: أَنضِبوا هذا الماء - يعني انزَحُوه ونشِّفوه - فأَنْضَبُوه فقالت: احتفروا. فاحتفروا فاستخرجوا عظام يوسف فلما أقلُّوها إلى الأرض - يعني رفعوها - إذا الطريق ُمثلُ ضوءِ النهار). لم تطلب العجوز شيئًا من الدنيا ولكنها طلبت مرافقة كليم الرحمن موسى بن عمران عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.. همةٌ عالية، ونفسٌ وثّابة، وقلبٌ طموح، وحسنُ ظن بالله العلي العظيم..   الله ارزقنا حسن الظن بك والطمع في رحمتك ورجاء مغفرتك يا أرحم الرحمين ويا خير الغافرين.. ومثل عجوز بني إسرائيل ربيعة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فلنستمع إلى قصته.. قال ربيعة: كنتُ أبيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيتُه بوَضوئِه وحاجتِه فقال لي: (سَلْ) فقلت: أسألك مرافقتَك في الجنة. قال: أوَ غيرَ ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: (فأعنّي على نفسك بكثرة السجود). لله دَرُّك يا ربيعة! لقد سألتَ ما تمنّاه الأولون والآخرون.. سألتَ ما أسهرَ العيون وحبب إلى الصائمين ظمأ الهواجر وأرخص المال في الوصول إلى بيت الله الحرام وجعل القراء يترنمون بآيات الكتاب العزيز آناء الليل والنهار.. اللهم إنا نسألك الرفيقَ الأعلى والنصيبَ الأوفى من جنات النعيم ونسألك الهدى والتقى والعفة والنُّهى والبشرى عند انقطاع الدنيا ونسألك إيمانًا لا يبيد وقرة عين لا تنفد وفرحًا لا ينقطع وتوفيق الحمد ولباس التقوى وزينة الإيمان ومرافقة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد. هذا ربيعة.. وأما أبو الدحداح فقد اشترى نخلة في الدنيا مقابل نخلة في الجنة ودفع في شراء نخلة الدنيا بستانًا كاملًا فيه ستمائة نخلة! عن أنس أن رجلًا قال: يا رسول الله إن لفلانٍ نخلةً وأنا أقيم حائطي بها فأْمُرْهُ أن يعطيَني - يعني تلك النخلة - حتى أقيمَ حائطي بها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطِها إياه بنخلة في الجنة) فأبى. فأتاه أبو الدحداح فقال: بِعني نخلتَك بحائطي! ففعل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ابتعتُ النخلة بحائطي، فاجعلها له - يعني للرجل المحتاج - فقد أعْطَيتُكَهَا فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم مِن عِذْقٍ رَداح لأبي الدحداح في الجنة) قالها مرارًا قال: فأتى أبو الدحداح امرأتَه فقال: يا أمَّ الدحداح، اخرُجي من الحائط؛ فإني قد بعتُه بنخلةٍ في الجنة. فقالت: ربح البيع! الله أكبر.. الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات.. علوٌّ في الهمم وسموٌّ في العزائم ونفوسٌ أبية أبتْ أن تجعل الدنيا أكبر همها أو مبلغَ علمها.. والله تعالى يقول: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، كلما طلعت شمس العزم وأشرقت الأرض بنور الإيمان أعادت لنا ذكرى عثمان رضي الله عنه الذي بذل ماله ونفسه لله، وبادر إلى اقتناص الفرصة كلما سنحت له فرصة.. عن أبي عبد الرحمن أن عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم فقال: أنشُدُكم الله - ولا أنشد إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفر بئر رومة فله الجنة) فحفرتها. ألستم تعلمون أنه قال: (من جهّز جيش العسرة فله الجنة) فجهزتهم فصدقوه بما قال. وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في كُمِّه حين جهّز جيشَ العسرة فنثرها في حجره، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلّبها في حجره ويقول: (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم) مرتين. هنيئًا لك يا عثمان بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنيئًا لك ما صنعتَ من المعروف والإحسان.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 26 أكتوبر 2018

الدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله ١٧|٢|١٤٤٠هـالموافق ٢٦|١٠|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، الأنبياء خيار بني آدم لكمال علمهم وخشيتهم وصدقهم وإخلاصهم ودعوتهم وتعليمهم وصبرهم على الناس، ثم من تأسى بهم من العلماء الربانيين الذين ورثوا عن الأنبياء العلم والعمل والزهد والورع والصدق والإخلاص والهمة العالية في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فعملوا على إخراج الناس من الظلمات إلى النور كما فعل الأنبياء فأسلم على أيديهم خلق كثير واهتدى بوعظهم وإرشادهم جمٌّ غفير من الحيارى والتائهين والسادرين والغارقين في الضلالة.. فنالُوا أجرَ من أسلم ومن اهتدى على أيديهم فمن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا يَنقُص ذلك من أجورهم شيئًا. وكل من اهتدى على أيديهم فهو يعلم مقدار الجميل الذي قدموه له لأنهم أخرجوه من الظلمات إلى النور وأنقذوه من النار وقد كان على شفا حفرة منها فأشرق بدعوتهم قلبه وبان له طريقُه وعرف الله الذي صدّه الشيطان عن سبيله. وفي الأثر: ((الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوه وضالٍّ تائه قد هدَوه، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد، فما أحسنَ أثرَهم على الناس وأقبحَ أثرَ الناس عليهم، يقتلونهم في سالف الدهر إلى يومنا هذا بالحدود ونحوها فما نسيهم ربك، وما كان ربك نسيًّا، جعل قصصهم هدى، وأخبر عن حسن مقالتهم، فلا تقصِّر عنهم فإنهم في منزلة رفيعة، وإن أصابتهم الوضيعة)). وكلما وهن عزمهم تذكروا المدِّثر صلى الله عليه وسلم الذي هجر الدثار وقام ينذر ويكبّر ربه ويطهر ثيابه ويحذّر من عبادة الأوثان ويصبر على ما يلقاه في سبيل الله.. وتذكروا نوحًا عليه السلام الذي ظلّ ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعو إلى الله لا يعرف الملل والكلل، يدعو بالليل والنهار والسر والإعلان لم ييأس ولم يترك الدعوة حتى أوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون. وديوانُ الدعوة إلى الله حافل بنماذج شتى من الدعاة ذوي الهمم العالية والعزائم السامية.. فهذا إبراهيم عليه السلام الذي خاصم قومه في الله وناظرهم وجادلهم ولما رأى أنهم لا يكفيهم الدليل العلمي راغ إلى آلهتهم فقال: ألا تأكلون! ما لكم لا تنطقون! فراغ عليهم ضربًا باليمين.. ومن شدة تعلقه بدينه ومحبته له وصى بنيه وتبعه حفيدُه يعقوب فوصّوا أبناءهم بالتمسك بالدِّين حتى يلقوا رب العالمين ((وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)). وهذا يوسف المسجون بغيًا وعدوًا يجد فرصة للدعوة إلى الله فيشرح دعوة التوحيد بكل ثبات ((وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ. يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)). وقد تعجب الكاتب الفرنسي (آرنولد) من المسلمين الذين لا ينسون دينهم حتى وهم في الأسر والسجون فإذا وجدوا فرصة دعَوا من أسرهم! ودعَوا المساجين المقصِّرين المحبوسين معهم! فأي محبة عندهم لدينهم! وقد خلّد  الله سبحانه موقفَ صاحبِ ياسين الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال: ((يا قوم اتبعوا المرسلين)) ولما قتله أصحابه تلقته الملائكة وقيل: ((ادخل الجنة. قال: يا ليت قومي يعلمون!)). وأعلى البريّةِ كلِّها همّةً في الدعوة إلى الله نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله له: ((فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات)) وقال: ((فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يَذبُّهنَّ عنها، وأنا آخُذُ بِحُجَزِكُم وأنتم تَفَلَّتُون من يَدِي)). لقد دعا صلى الله عليه وسلم إلى الله في المساجد والطرق والأسواق والمنازل والمواسم ومشى إلى الطائف ولما قال له ملَكُ الجبال: إن شئتَ أن أُطبقَ عليهم الأخشبَين. قال: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا.   صلى عليك الله يا عَلَم الهدى.. والله ما طلعت شمس ولا غربت * إلا وحبك مقرون بأنفاسي ولا جلستُ إلى قومٍ أحدِّثهم * إلّا وأنتَ حديثي بين جُلَّاسِي ومن حرصه أنه مشى إلى رأس المنافقين عبدِ الله بن أُبَيّ بن سَلول يدعوه إلى الله.. ومن حرصه أنه مشى إلى بيت كبير اليهود يدعوه إلى الله.. ومن حرصه أنه عاد غلامًا يهوديًا كان يخدمه فدعاه إلى الإسلام فأسلم فخرج وهو يقول: الحمد الله الذي أنقذه من النار.. وجاء رجل يريد قتلَه فأخذ السيف من يده وطلب منه الدخول في الإسلام.. وكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وملوك الأرض والأمراء والجبارين يدعوهم إلى الإٍسلام.. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين..   أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، الدعوة إلى الله ليست وقفًا على العلماء والأئمة والخطباء والوُعَّاظ والدُّعاة وليست الدعوة خطبة ولا درسًا ولا كلمة تُلقى بين يدي المصلين.. بل كل مسلم داعية، وكل أمر بالمعروف ونهي عن المنكر دعوة، فمُر بالمعروف أولادَك وإخوانَك وجيرانَك وأصحابَك وزملاءك ومديرَك في العمل ومن تحت ولايتِك من الموظفين.. وانهَ عن المنكر كل من يفعله من جارٍ وصاحب وولدٍ ووالد وقريب وبعيد.. فأفراد المجتمع إخوانُك، وأولاد المسلمين أولادُك، ولا تقل: لا علاقة لي بالآخرين. بل عليك تعلمَ العلم النافع والعملَ به ودعوةَ الآخرين إليه والصبرَ على الأذى فيه.. والمجتمع كالسفينة إذا غرق بعضُها غرق كلها.. والدعوة إلى الله ليست خاصة بالمسلمين فقط بل علينا الانطلاق بالدعوة إلى الكافرين أيضًا لإنقاذهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور.. وقد انشغل المسلمون بأنفسهم وأكلتهم الخلافات والنزاعات في المسائل الاجتهادية وتركوا دعوة الأمم الأخرى بل تركوا دعوة الغافلين من المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

الجمعة، 12 أكتوبر 2018

هذا نذير من النذر الأولى

هذا نذير من النذر الأولى ٣|٢|١٤٤٠هـالموافق ١٢|١٠|٢٠١٨م جامع الرحمة بالشحر الخطيب / محمد بن سعيد باصالح الخطبة الأولى أيها المسلمون، الأزمات والابتلاءات العظيمة التي تمر بها منطقتنا الإسلامية سواءً السياسية والعسكرية منها كمشكلة فلسطين والعراق وسوريا ومصر وليبيا واليمن.. أو الاقتصادية, والأزمة العالمية التي تهدد العالم, أو الأخلاقية وانتشار الفواحش والمخدرات, أو الاجتماعية والفرقة والاختلاف الحاصل في الأمة حتى على مستوى الإسلاميين, وأخيرًا الكوارث والزلازل والسونامي الذي ضرب إندونيسيا وأودى بحياة نحو ألفي قتيل. ومن رحمة الله عز وجل بالناس, أنه يمهلهم ويوالي عليهم الإنذارات قبل أن يأخذهم, كما قال تعالى:(( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )). وقال تعالى: (( وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ. حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ )). (( وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ )) أي: جوع أصابهم بمكة سبع سنين، كما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال: .. وإنَّ قريشًا أبطأوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (( اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبع يوسف. فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ويرى الرجل مابين السماء والأرض كهيئة الدخان فجاءه أبو سفيان, فقال: يا محمد جئتَ تأمرنا بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادعُ الله. فقرأ: (( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ))..الحديث. قال الحافظ: وأفاد الدمياطي أن ابتداء دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كان عقب طرحهم على ظهره سلى الجزور وكان ذلك بمكة قبل الهجرة. قال تعالى:(( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ )) أي: الجوع, كما رواه النسائي في تفسيره وابن حبان في صحيحه, عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العِلْهِز- يعني الوبر والدم - فأنزل الله عزل وجل: (( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ ْبِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ )) حسنه الحافظ ابن حجر في الفتح, والأرناءوط في تعليقه على ابن حبان. (( فَمَا اسْتَكَانُوا )) تواضعوا وذلوا , (( لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ )) أي: يرغبون إلى الله بالدعاء والطاعة وذلك أن الله عز وجل يأخذهم بالعذاب الأدنى لإصلاحهم ولعلهم يرجعون (( حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ )) هو يوم بدر بالقتل, كما ثبت ذلك عن ابن عباس فيما رواه الطبري بإسناد حسن. (( إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ )) آيسون من كل خير, فإن الغفلة عن الإنذار الأول توجب عذابًا بعده. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ )) رواه ابن ماجه, وحسنه الألباني. فقوله: (( وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ )) يشمل الغش التجاري بأنواعه. وقوله: (( وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا )) فيه دليل على أن البهائم أفضل من البشر في حالة تمردهم على الله ومعصيتهم, قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ )). وقال تعالى: (( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا )) وأما نقض عهد الله وعهد رسوله: أي ترك طاعتهما. فمن تدبر هذا الحديث كفاه.. فكأنما النبي صلى الله عليه وسلم يشخصُ واقعنا المعاصر, ويذكر لنا فيه الداء والدواء. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.. الخطبة الثانية أيها المسلمون، هذه الحالة التي وصلت إليها الأمة الإسلامية اليوم, هي التي أوجبت تداعي الأمم علينا اليوم, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِثَوْبَانَ: (( كَيْفَ أَنْتَ يَا ثَوْبَانُ، إِذْ تَدَاعَتْ عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَتَدَاعِيكُمْ عَلَى قَصْعَةِ الطَّعَامِ تُصِيبُونَ مِنْهُ؟ )) قَالَ ثَوْبَانُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا؟ قَالَ: (( لَا، بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ يُلْقَى فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنُ )) قَالُوا: وَمَا الْوَهَنُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (( حُبُّكُمُ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَتُكُمُ الْقِتَالَ )) رواه أحمد في مسنده, وهو حديث حسن. ولا حل لهذه الأمة إلا برجوعها إلى دينها. قال صلى الله عليه وسلم: (( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ, وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ )) رواه أبو داود وصححه الألباني. والعينة: نوع من أنواع الربا. وأخذ أذناب البقر والرضا بالزرع: كناية عن الرضا بالدنيا. فالواجب علينا جميعل الرجوع إلى ديننا والتوبة الصادقة من جميع الذنوب على مستوى جميع شرائح المجتمع والاستغفار الصادق الذي يوافق فيه اللسانُ القلب والذي يكشف الله به الكروب ويدفع به العقوبات العامة.. وندعو الناس إلى كثرة الدعاء والصدقات والتعاون في الكوارث والملمات وأن يكونوا يدًا واحدة وفريقًا واحدًا ويحمل القوي منهم الضعيف ونسأل الله أن يكفي بلادنا شر الكوارث والأعاصير ويجنبنا المهالك والنكبات ويلطف بنا وبجميع المسلمين اللهم اصرف عنا الشرور والمهالك والكوارث وآمنا في أوطاننا واغفر لنا أجمعين وهب المسيئين منا للمحسنين وتب علينا يا رب العالمين وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.. اللهم إنا نسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..  

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More