غزة رمز العزة
[ 9/1/1434هـ الموافق 23/11/2012م ]
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ صدق وعده , ونصر عبده , وأعز جنده , وهزم الأحزاب وحده ؛ فنعم النصير ونعم الهاد , وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله , سيد المجاهدين , وإمام المرابطين , أشهد أنه بلغ الرسالة , وأدى الأمانة , ونصح الأمة , وكشف الله به الغمة , وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين .
أمة الإسلام , أوصيكم ونفسي بتقوى الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [ آل عمران : 102 ] ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [ النساء : 1 ] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [ الأحزاب : 70 , 71 ] .
أمة الإسلام , جاء المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والعرب أمةٌ متناثرة , وقبائلُ متناحرة , تعبد الأصنام , وتتعلق بالأوهام , فحررهم من العبودية لغير الله , ووحد صفوفهم في سبيل الله , فساروا بدعوتهم المباركة ؛ يفتحون قلوب العباد قبلَ فتح البلاد , وينشرون الرحمة , والسلام , والعدل , والمساواة , حتى بلغ الإسلامُ المشارق والمغارب , وعاشت البشرية في رحاب الإسلام , عيشة الكرامة , والأمن , والسلام , والعدل , والحرية , والرحمة , فلما نسي المسلمون حظًا مما ذكروا به , حق عليهم القول , وسُحب البساط , وسلبت بلاد كان يصدح في ربوعها الأذان , وهدمت مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا , وحكم رقابَ المسلمين من لا يرقب فيهم إلًّا ولا ذمة , وشوهت معالم الدين , وانتشرت أفكارٌ ومذاهب , بعيدة عن الإسلام , وصفق لها ما لا يحصى من الناس , وأعلنت الحرب على الإسلام , فأحرِق الحجاب , واتهِمت أحكام الإسلام بالوحشية , وعُطل الشرع , وعاد الإسلام غريبًا كما بدأ , وتتابعت مآسي المسلمين ؛ كل مأساة أكبر من أختها , ولم يبق من مجد المسلمين وعزهم إلا حديثُ الذكريات .
فإن تراءت لك الحمراء عن كثب * فسائل الصرحَ أين المجد والجاه ؟
وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها * عمن بناه لعل الصخر ينعاه !
وطف ببغداد وانزل في مقابرها * علَّ امرأً من بني العباس تلقــاه !
ولكن .. يأبى الله إلا أن يتم نوره , فإذا بالناس يثوبون للإسلام , من كل حدب وصوب , يرممون ما تمزق , ويجمعون ما تفرق , ويعودون بالدين إلى منابعه الصافية , إلى الكتاب العزيز , والسنة المشرفة , فعادت للأمة روحها , ودبت الحياة في أوصالها ؛ عادت الحياة حين عاد الناس إلى الإيمان , حين عادوا إلى القرآن ؛ ذلك الكتاب العظيم , الذي صنع خير أمة أخرجت للناس , الكتاب الذي جعل العرب أمة مرهوبة الجناب , الكتاب الذي غير ملامح الحياة , وحول مسار التاريخ .
عاد الناس إلى القرآن في كل مكان , صغارًا وكبارًا , ذكورًا وإناثًا , عادوا ينهلون من معينه الثر , عادوا إلى القرآن في بلاد كانت من أشد البلاد عداوة للذين آمنوا , تحولت - بفضل الله - إلى محاضن للإسلام , وحقول للدعوة , ومصانع تصنع الرجال , وتخرج الأبطال ؛ من حفاظ القرآن والأحاديث الصحاح .
لا بد من صنع الرجال * ومثله صنع السلاح
وصناعة الأبطال علم * قد دراه أولو الفلاح
لا يصنع الأبطال إلا * في مساجدنا الفساح
في روضة القرآن في * ظل الأحاديث الصحاح
من خان حي على الصلاة * يخون حي على الكفاح
فمد عينيك حيث شئت من تلك البلاد , تلمس أثر القرآن في حياتهم , وقلوبهم , وسلوكهم , وزيهم , وكلامهم , وتفكيرهم , وآمالهم , ونظرتهم إلى الحياة , وتعاملهم مع الأحداث , وفهمهم لحقيقة الصراع , وفهمهم لطبيعة المعركة , ومشاعرهم , ودوافعهم , وطموحاتهم , وفي شتى ميادين الحياة .
لقد فعل القرآن فعله , فأصبح الذين يخافون لا يخافون , وتحول الموت من مرهوب إلى محبوب , وصارت الشهادة في سبيل الله أسمى الأمنيات . إنه القرآن الذي صنع الجيل الأول يصنع الجيل الجديد .
لقد فعل القرآن فعله , فعاد النقاب , وأصبحت المرأة لا أحب إليها من كتاب ربها , وكثرت حافظات القرآن , وزاد الطلب على المدارس الشرعية , وتضاعف الإقبال على البرامج الدعوية والتربوية , وأحيط بمشاريع أوربا التخريبية , وذهبت جهودها وأموالها وبرامجها أدراج الرياح , ورجعت بخفي حنين , وتجلى قولُ الحق ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ . لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [ الأنفال : 36 , 37 ] .
أمة الإسلام , من تلك البلاد التي صقلها القرآن , وصنع من أهلها جبالًا , تستعصي على الفناء , غزة . وما أدراك ما غزة ؟ غزة بلد العزة , بلد المجد , بلد الكرامة , بلد الفداء , بلد الإباء , بلد الشهداء , بلد الصبر , بلد اليقين , بلد الصمود , بلد العلم , بلد الإيمان , بلد حفاظ القرآن , بلد الجهاد , بلد الرباط .
أمة الإسلام , حين قررت إسرائيل توسيع عدوانها على غزة آخر يوم من عام 1433هـ بقتل القائد أحمد الجعبري - رحمه الله - , حسبت أنها ستكون بمنأى عن صواريخ المقاومة , لكنها تفاجأت بقوة وصلابة المقاومة وقدرتها على رد العدوان وتهديد أمن إسرائيل في قعر دارها , مما جعل إسرائيل تتراجع عن أهدافها , وتهرول للحصول على فرصة للتهدئة , لترمم جراحاتها , وتعيد حساباتها .
وهذه الهدنة فرصة - أيضًا - لحكومة غزة تتهيأ وتستعد لجميع الخيارات والاحتمالات , فبنو صهيون خائنون , لا عهد لهم ولا ذمة .
وهي فرصة كذلك للدول والشعوب الإسلامية , تدعم غزة سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا .
غزة - أيها الإخوة - بحاجة إلى مواقف سياسية مشرفة , ودعم اقتصادي مفتوح , وآلة إعلامية ضخمة , غزة بحاجة إلى جهود الجميع ؛ دولًا وحكومات وشعوبًا وأفرادًا , ولا تحقرن من المعروف شيئًا , مالًا , أو كلمة , أو مقالًا , أو رأيًا , أو نصيحة , وكل ميسر لما خلق له , والمؤمنون أمة واحدة , وهم يد على من سواهم .
أمة الإسلام , لقد تهيأت غزة عبر عشرات السنين من التربية الجهادية لأن تكون قاعدة انطلاق لتحرير كل فلسطين , وأثبتت حرب 2008 م قدرتها على الصمود , رغم تواطؤ المجتمع العربي حينها مع إسرائيل , فكيف بها اليوم , مع تغير الظروف إقليميًا وعالميًا .
أيها المسلمون , علينا أن نوسع أفق رؤيتنا , فلا نبقى في دائرة الدفاع , ولا أسر الواقع المؤلم , بل ننظر للأفق البعيد , بعين الأمل والفأل , وقوة العزيمة , ورفع سقف الطموح , والاستعداد لما هو أكبر , والتركيز والعمل على تحقيق الهدف الأكبر بتحرير كل فلسطين , والاستمرار في إنجاز هذا الهدف بخطوات صغيرة مستمرة , تجتمع فتكبر , ويبارك الله فيها , فتكون منجزات عظيمة .
ومع أننا لم نبرح بعيدًا عن الربيع العربي الذي فاجأنا , لكن بعض العقول لم تفهم الدرس , ولا تقبل مجرد التفكير بإمكانية زوال إسرائيل , وقد رأت حكومات عديدة قد ذهبت أدراج الرياح .
إن أمتنا العظيمة تخوض حاليًا 3 معارك في 3 جبهات مع 3 قوى من قوى الشر : الصهاينة والصليبيين في فلسطين , والصفويين في سوريا والعراق , والصليبيين في أفغانستان , والأمة تخوض هذه المعارك في ظل تخلي الحكومات , بل وعونها للأعداء ضد أمتنا , لكن معالم النصر تلوح والله معنا , ولن يترنا أعمالنا .
أقول قولي هذا , وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب , فاستغفروه , إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين , وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين , وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله , سيد الأولين والآخرين , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
أمة الإسلام , لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة , وجد اليهود تصوم عاشوراء , فسألهم , فقالوا : هذا اليوم الذي ظهر فيه موسى على فرعون , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « نحن أولى بموسى منكم » فأمر بصيامه .
نعم , نحن أولى بموسى من اليهود , لقد تزامنت أحداث غزة مع عاشوراء , الذي هو رمز لانتصار الخير على الشر , والحق على الباطل , والعدل على الظلم , والإيمان على الطغيان , رمز لقوة الله تعمل بلا ستار من البشر , البحر من الأمام وفرعون وجنوده من الوراء , ﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : 61 , 62 ] .
ولم يكن تعظيم عاشوراء قاصرًا على اليهود فحسب , بل كانت العرب تعظمه أيضًا , والنصارى كذلك , فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : « إن قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية , ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصيامه » .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : « حين صام رسول الله يوم عاشوراء , وأمر بصيامه , قالوا : يا رسول الله , إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى .. » الحديث .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل عاشوراء : « صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله » .
وحرصًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - على مخالفة اليهود , ندب أمته إلى صوم التاسع مع العاشر , فقال - صلى الله عليه وسلم - : « لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع »
فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب : أدناها أن يصوم العاشر وحده , وأوسطها أن يصوم التاسع والعاشر , وأعلاها أن يصوم التاسع والعاشر والحادى عشر .
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين ؛ فقد أمركم بذلك رب العالمين بقوله : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق