الدعاء سلاح المؤمن
[
16/ 12/1435هـ الموافق 10/10/2014م ]
الخطبة
الأولى
أيها المسلمون، باب من أبواب العبادة عظيم الخطر، جميل
الأثر، كبير القدر، وهو يسير على من يسره الله عليه، تفعله بلا كلفة، وتؤديه بلا
مؤونة، وهو يصنع لك المعجزات، ويحقق لك الرغبات والأمنيات، باب من دلّه الله عليه
فقد دلّه على خير كثير، ومن ألهِمَهُ فقد ألهِمَ الخيرَ كلَّه، ومن وفِّقَ إليه
فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم، بابٌ يصلك بالذي خلق السموات العلى.. إنه باب
الدعاء..
﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.. ﴾..
سبحان الكريم العظيم! يطلب من خلقه أن يدعوه، ويعدهم أن يستجيب لهم..
﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.. ﴾..
في الدعاء تتجلى معاني العبادة كلُّها: الإخلاص.. الذل.. الحب..
إسلام الوجه والقلب.. الإخبات.. الإنابة.. التوبة.. التوكل.. الصدق.. الخشية..
الخوف.. الرجاء.. وكل المعاني المحمودة..
وَإِنِّي لَأَدْعُو اللهَ وَالأَمْرُ ضَيِّقٌ * عَلَيَّ فَمَا يَنْفَكُّ
أَنْ يَتَفَرَّجَا
وَكَمْ مِنْ فَتَىً ضَاقَتْ عَلَيْهِ وُجُوهُهُ * أَصَابَ لَهَا
مِنْ دَعْوَةِ اللهِ مَخْرَجَا
ولإجابة الدعاء قيود:
القيد الأول: أن لا يشتمل على إثم أو قطيعة رحم.
والقيد الثاني: أن لا يستعجل الداعي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من رجل يدعو بدعاء
إلا استجيب له؛ فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر
عنه من ذنوبه بقدر ما دعا؛ ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل يقول: دعوت ربي فما
استجاب لي ".
كل داعٍ له عند الله إحدى ثلاث: إما أن يعجِّلَ له مطلوبَه في
الدنيا، أو يدخر دعوتَه في الآخرة، أو يكفِّر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا.. ما لم
يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل، يقول: دعوت ربي فما استجاب لي.
وتشتد حاجة المسلمين للدعاء عندما تكثر الفتن، والابتلاءات..
يدعو المسلم لنفسه وبلده ويدعو لإخوانه في مشارق الأرض
ومغاربها؛ فالمسلمون أمة واحدة، و " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا "..
رأى حبيب أبو محمد -
رحمه الله - ظالماً يضرب امرأةً عجوزًا بالسوط فقال: اللهم اقطع يدَه.. فما لبث إلا
ثلاثة أيام حتى قُطِعت يدُه..
ارفَعْ أَكُفَّكَ بِالدُّعَاءِ تَضَرُّعًا * مَا خَابَ مَنْ يَرْجُو
الكَريمَ وَيَطْلُبُ
اسألْهُ ذُلًّا لِلَّذِينَ تَجَبَّرُوا * فَاللهُ يَقْصِمُ مَنْ
يَشَاءُ وَيُعْطِبُ
ومقام الدعاء هو مقام الأنبياء.. انظر إلى دعوات الأنبياء في
القرآن الكريم، انظر إلى دعوات نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وداود، وسليمان،
وأيوب، ويونس، وزكريا..
وتأمل دعوات سيد المرسلين.. تأمل كثرتها، وحسن ألفاظها
ومعانيها، وتدبر جوامع الكلم فيها..
حتى الملائكة تدعو للمؤمنين، ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ
وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ
وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾..
وفي المواقف الصعبة يكون الدعاء أقرب وسيلة لتحقيق المطالب.. في
بدر الكبرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم أنجِزْ لي ما وعدتَّني،
اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبَدْ في الأرض "..
وألقى عليه السلام نظرة إلى أصحابه فرأى قلة عددهم وزادهم فقال:
" اللهم إنهم حفاة فاحمِلْهم، اللهم إنهم عراة فاكسُهم، اللهم إنهم جياع فأَشبِعهم"،
ففتح الله عليهم وكساهم وأطعمهم ونصرهم على عدوهم..
وكان يدعو لأصحابه إذا خرجوا في غزاة، أو سرية فيقول: " اللهم
سلِّمْهُم وغَنِّمْهُم " فكانوا يسلمون ويغنمون.
ولم ينسَ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الأسرى في مكة، تحت الظلم،
والقهر، والتعذيب، فكان يدعو لهم في قنوته ويقول: " اللهم أنج الوليد بن الوليد،
وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين ".
ولما قدم المدينة ورأى أصحابه المكِّيين قد أصابتهم الحُمى، واشتاقوا
إلى مكة، قال: " اللهم حَبِّبْ إلينا المدينة كحبِّنا مكة أو أشد، اللهم صَحِّحْها،
وبارك لنا في صاعها ومُدِّها، وانقل حُمَّاها إلى الجُحْفة "..
ولما انقطع المطر دعا للمسلمين: " اللهم اسقنا، اللهم اسقنا،
اللهم اسقنا " ولما كثُر المطر، وتهدمت البيوت، وتقطعت السُبل، وهلكت المواشي
من كثرة المطر، قال: " اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال والآجام
والظراب والأودية ومنابت الشجر "..
ونظر قِبَل اليمن نظرة فقال: "اللهم أقبل بقلوبهم، وبارك لنا
في صاعنا ومُدِّنا "..
ولما أبت دوس وعصت قال: " اللهم اهْدِ دَوْسًا وأْتِ بهم"
فهداهم الله وأتى بهم..
يَا مَنْ يَرَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَيَسْمَعُ * أَنْتَ المعَدُّ
لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ
يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا * يَا مَنْ إِليْهِ المشْتَكَى
وَالمَفْزَعُ
يَا مَنْ خَزَائِنُ رِزْقِهِ فِي قَولِ كُنْ * اُمْنُنْ فَإِنَّ
الخيرَ عِنْدَكَ أَجْمَعُ
مَا لِي سِوَى فَقْرِي إِلَيْكَ وَسِيلةٌ * فَبِالافْتِقَارِ إِلَيْكَ
فَقْرِي أَدْفَعُ
مَا لِي سِوى قَرْعِي لِبَابِكَ حِيلةٌ * فَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأيَّ
بابٍ أقرعُ!
وكان يدعو لأصحابه.. سمع ليلة صوت عبّاد بن بشر يصلي في المسجد
فقال: يا عائشة، أصوت عباد هذا؟ قالت: نعم. قال: اللهم ارحم عبّادًا..
ودعا لشاب بالعفاف، فقال: " اللهم اغفر ذنبه، وطهِّرْ قلبه،
وحَصِّنْ فرجه "..
وكان يدعو حتى للأطفال، كما قال أبو موسى -رضي الله عنه-: ولد لي
غلام، فأتيت به النبي -صلى الله عليه وسلم- فسماه إبراهيم، فحنّكه بتمرة، ودعا له بالبركة..
وفي الجملة كان رحمة للعالمين ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ
لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم،
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، مشى السلف الصالح على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من
كثرة الدعاء، والفزع إلى الله عند الشدائد..
قال الأصمعي: لما صافّ قتيبة بن مسلم لقتال الترك، وهاله أمرهم،
سأل عن محمد بن واسع - وكان رجلًا صالحًا -، فقيل: هو ذاك في الميمنة، جامح بقوسه،
يبصبص بأصبعه نحو السماء؛ ( أي يرفع سبابته إلى السماء ويحركها ) يدعو بها.. فقال:
تلك الأصبع أحب إليّ من مائة ألف سيف شهير، وشاب طرير.
ولما استفحل أمر التتار واجتمعت الجيوش الشامية والمصرية لقتالهم،
وتضرع الناس في سائر الأمصار إلى الله أن ينصرهم، وأن يكسر شوكة التتار، فكانت الأخبار
تأتي بنصر المسلمين، وأن السيف يعمل في رقاب التتار ليل نهار، وأنهم هربوا، وفروا،
واعتصموا بالجبال، والتلال، ولم يسلم منهم إلا القليل..
ولما غزا المسلمون بقيادة قتيبة بلدة بِيكَنْد ( مدينة قريبة من
بخارى )، وأبطأ خبرُه على المسلمين، اشتد الناس بالدعاء لهم بالمساجد والأمصار، فنصر
الله المسلمين على الكفار ومنحهم أكتافهم..
وكان صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- إذا اشتد الأمر يقول: إلهي
قد انقطعت أسبابي الأرضية من نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك،
والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل. ويشتد في البكاء والدعاء؛ فيستجيب الله،
ويجعل أمر الصليبيين في اضطراب، ويعودون إلى بلادهم بِشرِّ مآب..
ولا ينسى المسلم إخوانه إذا دعا، قال ابن عباس: قال عمر: اخرجوا
بنا إلى أرض قومنا، فكنت في مؤخر الناس مع أبي بن كعب فهاجت سحابة، فقال: اللهم اصرف
عنا آذاها..
قال: فلحقناهم، وقد ابتلت رحالهم، وحصل لهم شيء من الأذى، ولم يحصل
لهؤلاء ( يعني الذين كانوا مع أبي بن كعب )، فقال عمر:
ما أصابكم الذي أصابنا! قال ابن عباس: قلت: إن أبا المنذر ( يعني أبي بن كعب ) قال: اللهم اصرف عنا
آذاها، قال: فهلا دعوتم لنا معكم..
فعليكم بالدعاء فإنه دأب الأنبياء والمرسلين، وشأن
عباد الله الصالحين.. ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا
رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾.. ألا صلوا وسلموا على سيد
الأولين والآخرين..
0 التعليقات:
إرسال تعليق