يوم
عرفة
[ 9/12/1435هـالموافق 3/10/2014م ]
الخطبة
الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى
آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيبًا)
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد -صلى
الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في
النار.
عباد الله ... أظلكم يومٌ من أيام الله .. هو يوم عرفة، يوم
عظيم تجاب فيه الدعوات، وتقال العثرات، ويباهي الله فيه ملائكته بأهل عرفات. يوم
جعله الله تعالى أكبر ركن في الحج، حتى قال -عليه الصلاة والسلام-: "الحج
عرفة"، إنه يوم عرفه ... عظم الله أمره، ورفع على الأيام قدره، فاستشعروا -أيها
الناس - برَكَة الزمان في كل موسم خير؛ فإنه مما يحرك الإيمان في القلب، ويعمق أثر
العبادة، وبدون الاستشعار تبقى العبادة جافة بلا روح. فهنيئًا لمن وردَ مشارِعَ
القبول، وخيَّم بمنازل الرحمة، فما أعظمَها من أيامٍ، وما أجلَّها من مواسم!
يوم عرفة يومٌ تُعتَقُ فيه الرِّقابُ، ويُسمَعُ فيه الدعاءُ
ويُجابُ، وما من يومٍ أكثر من أن يُعتِقَ الله - عز وجل- فيه عبدًا من النار من
يوم عرفة، وإنه ليدنُو ثم يُباهِي بهم الملائكةَ، فيقول: ما أراد هؤلاء؟!
وخيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة؛ فأظهِروا فيه التوبةَ والاستغفار،
والتذلُّل والانكِسار، والندامةَ والافتقار، والحاجةَ والاضطرار.
إن سلفكم الصالح لم يكونوا في هذا اليوم إلا خائفين وجلين، يغلب
عليهم الحياء من الله وخشيته، مع قوة يقينهم بأنه يوم مغفرة وعتق من النار، كانوا
مع حسن ظنهم بربهم كانوا مؤنِّبين موبِّخين لأنفسهم، وهو نوع من الاستشعار المقصود.
إنه يوم إكمال الدين، وإتمام النعمة، في الصحيح عن عمر بن
الخطاب -رضي الله عنه- أن رجلًا من اليهود قال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم
تقرؤونها لو علينا - معشرَ اليهود - نزلت لاتخذنا هذا اليوم عيدًا، قال: أي آية؟
قال: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) [المائدة:3]، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم
والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قائم بعرفة يوم
جمعة.
ويوم عرفة هو اليوم المشهود الذي أقسم به الله تعالى في القرآن:
( وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) ، ففي السنن، عن أبي هريرة، قال - صلى الله عليه وسلم -
: (( اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة ))
وصيام يوم عرفة يكفر سنتين، ففي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة
أنه لما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن صيام يوم عرفة قال: " يكفر السنة
الماضية والسنة القابلة".
يوم عرفة.. اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم، عن
ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أَخَذَ اللَّهُ
الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِنَعْمَانَ، يَعْنِي عَرَفَةَ،
فَأَخَرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ
يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلا، وَقَالَ: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ
هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ
وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ
الْمُبْطِلُونَ)" أخرجه أحمد وهو صحيح. إذاً، فلنتذكر أنه في يوم عرفة أخذ
الله تعالى علينا الميثاق ونحن كالذر في ظهر أبينا آدم ألا نشرك به شيئًا.. فهل
نحن على العهد والميثاق؟
معاشر الأخوة: ويستحب في هذا اليوم العظيم الإكثار من التكبير من
فجر يوم عرفة دبر الصلوات، ويستمر إلى عصر آخر أيام التشريق، وهو الثالث عشر من ذي
الحجة، فعن شقيق بن سلمة قال: كان علي -رضي الله عنه- يكبر بعد صلاة الفجر غداة
عرفة، ثم لا يقطع حتى يصلي الإمام من آخر أيام التشريق، ثم يكبر بعد العصر. أخرجه
البيهقي.
أيها الناس: جددوا
التوبة والأوبة إلى الله.. فقد شُرِعَت أبوابُها، وحلَّ زمانُها، ونزلَ أوانُها،
فهُبُّوا من نومةِ الرَّدَى، وأفيقُوا من رقدَة الهَوى، وامحُوا سوابِقَ العصيان
بلواحِق الإحسان، ولتكن مواسمُ الخيرات والعشرُ المُباركات، ويوم عرفات.. بدايةَ
عودتكم، وانطلاقةَ رجُوعكم، وإشراقَ صُبحكم، وتباشِيرَ فجركم، وادلِفوا إلى باب
الإنابة، وانزِعوا عن الخطيئة، وأقلِعوا عن المعصية، فمن تابَ وأنابَ تابَ الله
عليه، والتائبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ له.
قلت ما سمعتم..
واستغفر الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على
الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
أما بعد، أيها الناس... لقد أدى رسول الله دوره، وبلغ ما أَمره
به ربه، وصنع للدنيا رجالًا أكْفَاءَ قادرين على حمل الرسالة وتبليغها للعالم، وفي
مثل هذا اليوم العظيم.. قبل ألف وأربعمائة عام، وقف نبيكم صلى الله عليه وسلم بين
يدي رجالاته، يرسم لأمته وللبشرية طريق النجاة في خطبته العظيمة التي لم يشهد
التاريخ لها مثيلًا،
كأنني برسول الله مرتديًا *** ملابس الطهر بين الناس كالقمرِ
نور وعن جانبيه من صحابته *** فيالقٌ وألوف الناس بالأثرِ
يمضي ينادي خذوا عني مناسككم *** لعل هذا ختام العهد والعمُرِ
وقام في عرفات الله ممتطيًا *** قصواءه يا له من موقف نضِرِ
يشدو بخطبته العصماء زاكيةً *** كالشهدِ كالسلسبيل العذبِ
كالدررِ
مجلّيًا روعة الإسلام في جملٍ *** من رائعٍ من بديعِ القولِ
مختصرِ
لقد أنصتتِ الدنيا بأسرها - بلسان حالها ومقالها - لتسمع كلام
أصدق القائلين وهو يقول: ( أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم
بعد عامي هذا )، أنصتت لتسمع قوله صلى
الله عليه وسلم وهو يُلخص لأمته - بل للبشرية جمعاء - مبادئ الرحمة والإنسانية،
ويرسي لها دعائم السلم والسلام، ويقيم فيها أواصر المحبة والأخوة، ويغرس بأرضها
روح التراحم والتعاون؛ وكأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم - بما أطلعه الله عليه -
أنه سيأتي على الناس حين من الدهر يودِّعون فيه هذه المبادئ، ويلقونها وراءهم
ظهريًا، ويسيرون في عالم تسود فيه معايير القوة والظلم.
ومن أهم ما أعلنه صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة من مبادئ
الدين العظيمة:حرمة دماء المسلمين، وحرمة أموالهم، حيث قال: إن دماءكم وأموالكم
وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم،
فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلّالًا، يضربُ بعضُكم رقابَ بعض" فالمجتمع
الآمن هو الذي يأمن أفراده على نفوسهم وأموالهم، وهو الذي يخطو إلى التقدم
والازدهار حضاريًا. فلو أن الأمة سارت على هديها لكان ضمان أمنها، ورخائها،
وتقدمها، ونصرها على أعدائها ما تمسكت بمدلولاتها، واتخذتها منهج حياة.
ومن مبادئها العظام
قوله – صلى الله عليه وسلم - :( ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع،
دماء الجاهلية موضوعة.. وربا الجاهلية موضوع.. ) وهذا نص واضح، وتصريح صارخ أن كل
ما كان عليه أمر الجاهلية قد بَطَل، ولم يبقَ له أي اعتبار، بل هو جيفة منتنة، لا
يمكن أن ينهض بأمة، بَلْهَ أن يبني حضارة تكون هدى للبشرية، بل هو إلى الهدم والخراب
أقرب.
ومنها وصيته عليه
الصلاة والسلام لأمته بالتمسك بكتاب ربها والاعتصام به، مبينًا أنه سبيل العزة
والنجاح ( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله ) وصدق رسول
الله .. فهل وصلت أمة الإسلام إلى ما وصلت إليه إلا بهجْرِ كتاب ربها، وترْكَ منهج
نبيها، فلا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فهل تفيء البشرية إلى رشدها أم تبقى في غيِّها
لا تلوي على أحد، ولا تُقيم وزنًا لدين أو خلق.
هذه خطبته التي أقام بها الحُجَّة على العالمين، وقد سألهم بعد
الانتهاء منها قائلًا: ( وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟ )، قالوا: نشهد أنك
قد بلغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ، فقال بإصبعه السبَّابة يَرفعها إلى السماء، ويَنكُتُها
إلى الناس: ( اللهم اشهَدْ، اللهم اشهد، اللهم اشهد ) رواه مسلم.
أيها الناس.. وأنتم تُسألون غدا عن شريعته.. فما أنتم قائلون.
ثم اعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته
المُسبِّحة بقُدسه، وثلث بكم -أيها المؤمنون- من جنِّه وإنسِه، فقال قولًا كريمًا:
( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )
0 التعليقات:
إرسال تعليق