قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها
المكان : جامع الرحمة بالشحر
الزمان : 20/3/1434هـ الموافق 1/2/2013م
الخطبة الأولى
أيها المسلمون ، نفس الإنسان التي بين جنبيه عالَمٌ من العجائب والغرائب , بل هي معجزة من معجزات الخلق , لا يعرف حقيقتها غير خالقها الذي سواها فألهمها فجورها وتقواها .
ومن أعجب ما في تلك النفس ما تنطوي عليه من صفات متغايرة , وما تحمله من سمات متضادة , وما يعتريها من إقبالٍ وإدبارٍ , وشِرَّةٍ وفترةٍ , وطيبٍ وخبثٍ , وأمرٍ بالسوء واطمئنانٍ إلى الخير .
وقد تعامل المنهج التربوي الإسلامي مع النفس بكل هذه الاعتبارات , فجمع لها بين الترغيب والترهيب , وزاوج في تهذيبها بين الرجاء والخوف , والإنسان يولد على الفطرة , فإذا قدِّر له من يذكِّره بالخير ويدلُّه عليه استقامت نفسه على طريق الهدى واستحسنته وألفته , وإن لم يجد من يذكّره أو وجد من يميل به مالت نفسه إلى طريق الفجور واستمرأته وركنت إليه .
وقد جاء في كتاب الله تقسيم النفوس إلى ثلاث : نفسٌ أمَّارة بالسوء , يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب وارتكاب المعاصي , ونفسٌ لوّامة تذنب وتخطئ , ولكنها تلوم صاحبها على ذلك وتؤنِّبه , فيحدث لكل ذنب توبة , ويسلك بعد الضلال طريق الإنابة ، ونفس مطمئنة تحب الخير وتفعل الحسنات , وتبغض الشر ، وتجتنب السيئات , قد اطمأنت إلى مولاها في قضائه وقدره , واطمأنت إليه في دينه وشرعه , واطمأنت إليه في جزائه وثوابه , وصار ذلك لها خلقًا وعادةً وملَكةً , فأصبحت بذلك راضيةً مرضية .
أيها المسلمون ، نفوس الناس بالنظر إلى ما تحبه وتميل إليه ثلاثة أقسام :
نفس محبتها منصرفة إلى معرفة الله بأسمائه وصفاته , متجهة إلى فعل الفضائل والطاعات ، منصرفة عن الرذائل والمخالفات , مشغوفة بما يقربها من الرفيق الأعلى , وبين تلك النفس وبين الملائكة مناسبة طبيعية , بها مالت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم , ومن ثَمَّ فالملائكة أولياؤها في الدنيا والآخرة , يتولونها بالتثبيت والتعليم , وإلقاء الصواب على لسان صاحبها , ودفع عدوّه عنه , والاستغفار له إذا زلَّ , وتذكيره إذا نسي , وتسليته إذا حزن .
ونفس محبتها منصرفة إلى القهر والبغي والعلو في الأرض والكبْر والرئاسة على الناس بالباطل , فلذّاتُها في ذلك , وشغَفُها به , وبين تلك النفس وبين الشياطين مناسبة طبيعية , بها مالت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم , ومن ثم فإن الشياطين تتولى تلك النفس , فتخرج أصحابها من النور إلى الظلمات , وتؤُزُّهم إلى المعاصي أزًّا , وتزين لهم القبائح والمعاصي , وتسهّل عليهم المخالفات وتثقّل عليهم الطاعات , وتلقي على ألسنتهم ألوان القبيح من الكلام , وهي معهم أينما كانوا , تشاركهم في أموالهم وأولادهم , وتأكل معهم وتشرب وتجلس وتبيت .
ونفس محبتها منصرفة إلى المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك من الشهوات والملاذ , وهذه النفس لا تبالي بغير شهواتها , ولا تقوم إلا للذاتها , فهي مشغوفة بها , مشغولة عن مراد ربها , ملازمة لها إلى حين أجلها .
أيها المسلمون ، ما من نفس إلا ويتجاذبها ثلاثة دواعٍ :
داعٍ يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشياطين , وداعٍ يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الحيوان , وثالث يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الملائكة .
والنفس بين هذه الدواعي مستعدة للخير والشر , وهي منقادة مع من سبق , مطاوعة لمن غلب , وإنما يأتيها البلاء من شيئين :
من تزيين الشيطان لها ما يضرها , ومن جهلها بما ينفعها ويصلح شأنها ، فإن الشيطان يزين لها السيئات , ويريها إياها في صور المنافع واللذات والطيبات , ويغفلها عن مطالعة مضرتها .
ومن ثَمَّ فإنه لا كمال للإنسان ولا نجاة لنفسه إلا بتكميل مراتب الكمال الإنساني بإصلاح نفسه وإصلاح غيره بالعلم النافع والعمل الصالح أولًا ، ثم بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر عليه ثانيًا .
﴿ وَالعَصرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ ﴾ .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه , أقول قولي هذا وأستغفر الله ..
الخطبة الثانية
أما بعد ، فاتقوا الله وأطيعوه , واذكروه ولا تنسوه , واشكروه ولا تكفروه , واعلموا أن الإنسان وإن كان مجبولًا بفطرته على الخير مطبوعًا على قبول الحق فإن في النفس بطبيعتها ميلًا إلى الشهوات واللذات واتباع الهوى وهي كالطفل إن أدبها صاحبها وهذبها صلحت واستقامت وإن أهملها وتركها خابت وخسرت قال - جل وعلا - : ﴿ وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا . قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾ .
قد أفلح من طهر نفسه ونماها ورفعها بالدين والإيمان , وقد خاب من أخفى فضائل نفسه وأمات استعدادها للخير بفعل المعاصي واجتراح السيئات ومجانبة الخير والبر والقربات .
قد أفلح من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا , وقد خاب من دسس نفسه في العيوب وشوهها بالذنوب .
قد أفلح من اتخذ الله وليًا , وقد خاب من اتخذ الشيطان وليًا من دون الله - وهو له عدو - بئس للظالمين بدلًا .
اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها , اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا .
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق