تعديل

الشيخ محمد سعيدباصالح

الجمعة، 24 أبريل 2015

خطبة ( حرمة رجب )



حرمة رجب
[ 5/7/1436هـ الموافق 24/4/2015م ]
الخطبة الأولى
أَيُّهَا النَّاسُ، مِنَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِتَعْظِيمِهَا، وَمُرَاعَاةِ حُرْمَتِهَا، وَالْإِمْسَاكِ عَنْ ظُلْمِ النَّفْسِ فِيهَا: الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّـهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّـهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ).
فَدَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- هُوَ وَاضِعُ الْأَشْهُرِ بِهَذَا الْعَدَدِ، وَأَنَّ وَضْعَهَا كَانَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَيَانِ: قَطْعُ اخْتِلَافِ أَهْلِ المِلَلِ وَالتَّوَارِيخِ فِيمَنْ وَضَعَ الشُّهُورَ.
وَفَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ أَهَمُّ مِنْهَا: وَهِيَ أَنَّ خَالِقَ الشَّيْءِ وَوَاضِعَهُ هُوَ المُسْتَحِقُّ لِأَنْ يَضَعَ فِيهِ أَوْ فِي بَعْضِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا يَشَاءُ، وَأَنْ يَشْرَعَ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا يَشَاءُ؛ وَلِذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ مَنْ يَخْلُقُ هُوَ مَنْ يَأْمُرُ وَيَشْرَعُ ( أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ), وَمَنْ يَأْمُرُ فِي الْآخِرَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ فِي الدُّنْيَا ( يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّـهِ ).
وَفَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ لَا تَقِلُّ عَنْهَا: وَهِيَ إِثْبَاتُ عَظَمَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى- بِبَقَاءِ الشُّهُورِ عَلَى عَدَدِهَا، رَغْمَ مَا مَرَّتْ بِهِ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ حُرُوبٍ وَتَحَوُّلَاتٍ وَتَغَيُّرَاتٍ وَهِجْرَاتٍ؛ حَتَّى مُسِخَتْ شَرَائِعُ، وَغُيِّرَتْ أَدْيَانٌ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَمْ يُرِدْ حِفْظَهَا، وَبَقِيَ عَدَدُ الشُّهُورِ كَمَا هُوَ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَرَادَ حِفْظَهَا.
وَقَدْ حَرَّمُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ هَذِهِ الشُّهُورِ أَرْبَعَةً، جَاءَ تَحْدِيدُهَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ " ( رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ).
فَهَذِهِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٌ حُرُمٌ بِالنَّصِّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِيهَا؛ لِيَأْمَنَ الْحُجَّاجُ وَالزُّوَّارُ؛ فَالثَّلَاثَةُ المُتَوَالِيَةُ لِيَأْمَنَ مَنْ جَاءَ لِلْحَجِّ، وَتَحْرِيمُ رَجَبٍ لِمَنْ جَاءَ مُعْتَمِرًا.
وَفِي تَحْرِيمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِرَجَبٍ يَقُولُ التَّابِعِيُّ المُخَضْرَمُ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ شِرْكِهِمْ: " فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ، قُلْنَا: مُنَصِّلُ الْأَسِنَّةِ، فَلاَ نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ، وَلاَ سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ، إِلَّا نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبَ "؛ أَيْ: لِأَجْلِ دُخُولِ شَهْرِ رَجَبٍ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِهِمُ الْقِتَالَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْزِعُونَ الْحَدِيدَ مِنَ السِّلَاحِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.
وَقِيلَ لَهُ ( رَجَبُ مُضَرَ )؛ لِأَنَّ رَبِيعَةَ بْنَ نِزَارٍ كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَيُسَمُّونَهُ رَجَبًا. وَكَانَتْ مُضَرُ تُحَرِّمُ رَجَبًا نَفْسَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِ: "ا لَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ "، وَرَفَعَ مَا وَقَعَ فِي اسْمِهِ مِنَ الِاخْتِلَالِ بِالْبَيَانِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي رَجَبًا مُنَصِّلَ الأسِنَّةِ.
 وَتَحْرِيمُ شَهْرِ رَجَبٍ يَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِثْلَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْهُرِ غَيْرِ الْحُرُمِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ الظُّلْمِ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، وَكُلُّ المَعَاصِي ظُلْمٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَيَتَأَكَّدُ اجْتِنَابُهَا فِي الْأَزْمِنَةِ المُعَظَّمَةِ كَرَجَبٍ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.
وَنَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ المَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ كَوْنِهَا أَشْهُرًا حُرُمًا، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ: رَدُّ الْعُدْوَانِ، وَهُوَ جِهَادُ الدَّفْعِ، فَيَحِلُّ فِيهَا.
وَالظُّلْمُ ظُلْمَانِ: ظُلْمُ النَّفْسِ بِالمَعَاصِي، وَظُلْمُ الْغَيْرِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَآيَةُ تَعْظِيمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى اجْتِنَابِ الظُّلْمِ ( فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ).
وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ المَعَاصِيَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ - وَرَجَبٌ مِنْهَا- أَشَدُّ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا، سَوَاءً كَانَتِ المَعَاصِي مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ اللَّـهِ -تَعَالَى-، أَمْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ النَّاسِ.
فَمِنَ الْعِبَادَةِ فِي شَهْرِ رَجَبٍ أَنْ يَكُفَّ كُلُّ عَاصٍ عَنْ مَعْصِيَتِهِ؛ طَاعَةً لِلَّـهِ -تَعَالَى- حِينَ حَرَّمَ رَجَبًا، وَتَعْظِيمًا لِحُرُمَاتِهِ -سُبْحَانَهُ-؛ فَمَنْ كَانَ يُثَرْثِرُ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ وَيَغْشَى مَجَالِسَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فَلْيُمْسِكْ عَنْ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ، لَعَلَّ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَهُ تَوْبَةً عَنْ مَعَاصِي الْقَوْلِ، وَإِثْمِ الْكَلَامِ؛ فَإِنَّ حَصَائِدَ الْأَلْسُنِ تَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ.
وَمَنْ كَانَ أَكُولًا لِلْحَرَامِ مِنْ رِبًا أَوْ رِشْوَةٍ أَوْ غِشٍّ فِي المُعَامَلَاتِ، وَكَذِبٍ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ فَلْيُمْسِكْ عَنْ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ، فَلَعَلَّهُ بِإِمْسَاكِهِ يَذُوقُ الْحَلَالَ فَيَجِدُ لَذَّتَهُ فَيَتَخَلَّصُ مِنَ الْحَرَامِ.
وَمَنْ كَانَ مُدْمِنَ نَظَرٍ إِلَى الْحَرَامِ، تَأْسِرُهُ الصُّوَرُ وَالْأَفْلَامُ، فَلْيُمْسِكْ عَنْهَا فِي رَجَبٍ فَلَعَلَّهُ بِتَعْظِيمِهِ لِحُرْمَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِي رَجَبٍ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ أَسْرِ النَّظَرِ إِلَى الْحَرَامِ، وَيُعَوَّضَ عَنْهُ بِالطَّيِّبِ الْحَلَالِ، أَوْ يَفْتَحَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ بَابَ لَذَّةٍ فِي عِبَادَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ قُرْآنٍ فَيَجِدَ فِيهَا مِنَ الْحَلَاوَةِ مَا لَمْ يَجِدْ مِنْ قَبْلُ حِينَ كَانَ مُقِيمًا عَلَى مَعْصِيَتِهِ.
وَمَنْ وَقَعَ فِي ظُلْمِ الْغَيْرِ مِنْ مُدِيرٍ فِي إِدَارَتِهِ، أَوْ زَوْجٍ ظَلَمَ زَوْجَتَهُ، أَوْ وَالِدٍ أَهْمَلَ وَلَدَهُ، أَوْ وَلَدٍ عَقَّ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ، أَوْ قَرِيبٍ قَطَعَ رَحِمَهُ، أَوْ جَارٍ أَسَاءَ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يَظْلِمُ مَنْ تَحْتَ يَدِهِ مِنْ خَادِمٍ أَوْ سَائِقٍ أَوْ عَامِلٍ، فَيَعْتَدِي عَلَيْهِمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، أَوْ يَبْخَسُهُمْ حُقُوقَهُمْ فَلْيَتُبْ مِنْ ذَلِكَ؛ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ رَجَبٍ، وَامْتِثَالًا لِقَوْلِ اللَّـهِ -تَعَالَى-: ( فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ).
وَالتَّقْصِيرُ فِي الْفَرَائِضِ ظُلْمٌ وَمَعْصِيَةٌ؛ فمن كان مقصرًا في صلاته فليتب من التقصير وليتدارك ما فات ويتعهد صلاته في وقتها في جماعة مع الخشوع والسكينة؛ خشوع القلب والأركان، وسكينة الجوارح والجنان.
وَهَكَذَا كُلُّ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبْدِ سَوَاءً كَانَ عِبَادَةً مَحْضَةً، أَمْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَيَجْتَهِدَ فِي أَنْ لَا يَبْخَسَ مِنْهُ شَيْئًا فِي هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ -تَعَالَى-، وَنَهَى عَنْ ظُلْمِ النَّفْسِ فِيهِ.
وَمَنْ عَظَّمَ حُرُمَاتِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِي رَجَبٍ أَعَانَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى الْإِتْيَانِ بِمَا تَرَكَ مِنْ فَرَائِضِهِ، وَأَعَانَهُ عَلَى تَرْكِ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فِي غَيْرِ رَجَبٍ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْعَبْدِ لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ جَذْوَةِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ.
وَمَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ خِيفَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيغَالِ فِي المَعَاصِي، وَالِانْتِقَالِ مِنْ لمَمِهَا وَصَغَائِرِهَا إِلَى كَبَائِرِهَا، وَخِيفَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْفَرَائِضِ. وَلِلْأَسَفِ فَإِنَّ رَجَبًا يَمُرُّ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ كَمَا يَمُرُّ غَيْرُهُ مِنَ الشُّهُورِ، لَا يَسْتَشْعِرُونَ حُرْمَتَهُ، وَلَا يَسْتَحْضِرُونَ عَظَمَتَهُ، وَلَا يُرَاعُونَ حَقَّ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِيهِ، وقليل من الناس من يعظم الأشهر الحرم ويراعي حق الله فيها أولئك هم المتقون الصادقون الذين باشرت التقوى قلوبهم ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّـهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ )، ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ).
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، مِنَ الْخَطَإِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ خَلْطُهُمْ بَيْنَ تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ تَخْصِيصِهِ بِعَمَلٍ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ؛ فَاللهُ -تَعَالَى- قَدْ يُفَضِّلُ زَمَنًا وَيَخُصُّهُ بِعَمَلٍ كَمَا فَضَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَخَصَّهُ بِخُطْبَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَفَضَّلَ رَمَضَانَ، وَخَصَّهُ بِفَرْضِ الصِّيَامِ، وَفَضِيلَةِ التَّرَاوِيحِ.
وَقَدْ يُفَضِّلُ -سُبْحَانَهُ- زَمَنًا وَلَا يَأْمُرُ فِيهِ بِعَمَلٍ، فَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ يُخَصَّ بِعَمَلٍ؛ كَمَا فِي تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ فَإِنَّ الْوَارِدَ فِيهَا الْإِمْسَاكُ عَنْ ظُلْمِ النَّفْسِ بِالمَعَاصِي سَوَاءً كَانَتْ فِعْلًا أَمْ تَرْكًا، وَسَوَاءً تَعَلَّقَتْ بِحُقُوقِ اللَّـهِ -تَعَالَى- المَحْضَةِ، أَمْ تَعَلَّقَتْ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ.
فَكُلُّ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ -وَمِنْهَا رَجَبٌ- لَا يُشْرَعُ تَخْصِيصُهَا بِعَمَلٍ لَا يَعْمَلُهُ الْعَبْدُ فِي غَيْرِهَا، إِلَّا مَا وَرَدَ مِنَ الْعَمَلِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ فَإِنَّهَا مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَوَرَدَ تَخْصِيصُهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي نُصُوصٍ عِدَّةٍ، وَوُرُودُ ذَلِكَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ دُونَ سَائِرِ أَيَّامِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ غَيْرِهَا بِعَمَلٍ صَالِحٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَوْ أَرَادَ تَخْصِيصَهَا بِعَمَلٍ صَالِحٍ لَدَلَّنَا عَلَيْهِ كَمَا دَلَّنَا عَلَيْهِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَيَّامِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَلَا يُشْرَعُ تَخْصِيصُهَا بِصَوْمٍ، وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَا إِحْيَاءِ لَيْلِهَا بِذِكْرٍ أَوْ صَلَاةٍ، وَلَا أَيِّ عَمَلٍ صَالِحٍ.
وَلَوْ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ إِلَّا فِي رَجَبٍ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ فَرَاغِهِ أَوْ نَشَاطِهِ، وَلَمْ يَقْصِدِ الْعَمَلَ فِيهِ لِأَنَّهُ رَجَبٌ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْعِدَ تَوْبَتِهِ، فَعَمِلَ فِيهِ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْمَلُ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِرَجَبٍ بِعَمَلٍ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ. وَتَخْصِيصُ رَجَبٍ بِإِحْيَاءِ لَيَالٍ مِنْهُ، أَوِ الِاحْتِفَالِ بِهَا، أَوْ صِيَامِ أَيَّامٍ مِنْهُ، أَوْ تَخْصِيصِهِ بِصَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ أَيِّ عَمَلٍ صَالِحٍ لَا يَعْمَلُهُ إِلَّا لِأَنَّهُ فِي رَجَبٍ فَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْبِدْعَةِ. وَالِابْتِدَاعُ فِي دِينِ اللَّـهِ -تَعَالَى- مِنَ الظُّلْمِ المَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ( فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ).. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More