تعديل

الشيخ محمد سعيدباصالح

الجمعة، 17 أبريل 2015

خطبة ( نفوس كبيرة في ظروف صعبة )



نفوس كبيرة في ظروف صعبة
[ 28/6/1436هـ الموافق 17/4/2015م ]
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خضعت لعظمته الرقاب، ولانت لقوته الصعاب، غافرِ الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ.. مَا ذُكِر اسْمُه فِي قَلِيْل إِلَا كَثَّرَه.. ولَا عِنْد كَرْب إِلَا كَشَفَه.. وَلَا عِنْد هَمّ إِلَا فَرَّجَه.. فَهُو الْاسْم الَّذِي تَكْشِف بِه الْكُرُبَات, وَتُسْتَنْزَل بِه الْبَرَكَات.. وَتُقَال بِه الْعَثَرَات, وَتُسْتَدْفَع بِه الْسَّيِّئَات.. بِه أَنْزَلْت الْكُتُب, وأُرْسِلْت الْرُّسُل.. وَشُرِعَت الْشَّرَائِع.. وَحَقَّت الْحَاقَّة وَوَقَعَت الْوَاقِعَة.. وَبِه وُضِعَت الْمَوَازِيْن الْقِسْط, وَنُصِب الْصِّرَاط.. وَقَام سُوق الْجَنّة وَالنَّار..
فَسُبْحَانَه مَا أَحْكَمَه.. وسُبْحَانَه مَا أَعْظَمَه.. وسُبْحَانَه مَا أَعْلَمُه!! من تكلم سمع نطقه, ومن سكت علم سره، ومن عاش فعليه رزقه, ومن مات فإليه منقلبه.. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ما تلاحمت الغيوم، وعدد ما في السماء من نجوم.
 أما بعد، فيا عباد الله، عند اشتداد الفتن، وحلول المصائب والمحن، وظهور الخلافات والصراعات بين بني البشر، وتعرض المرء للابتلاء في دينه ونفسه وأهله ووطنه؛ فإن على المسلم في مثل هذا الحال أن يبذل من الأسباب ما يستطيع أن يدفعَ هذه الفتن أو يقلّلَ من آثارها أو يحدَّ من أخطارها، وبعد ذلك يتوكل على الله ويستعين به ويحسن الظن برحمته وعفوه وقدرته..
لما وهب الله لإبراهيم - عليه السلام - ولدَه إسماعيل، أمره ربُّه بأن يهاجرَ من فلسطين مع زوجته، هاجر وابنُه الرضيع إلى وادٍ مترامِ الأطراف لا ماء فيه ولا طعام ولا شجر، ولا يوجد فيه أحد من البشر، حتى إذا وصل إلى ذلك المكان ترك زوجته وابنَه الرضيع، وترك لهما قليلًا من الماء وبعضَ حباتٍ من التمر، وعاد بأمر ربه إلى فلسطين.
فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي، الذي ليس فيه أحد ولا شيء فيه؟! قالت ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها حتى لا يتأثر بالعاطفة ويحن عليهما وينسى أمرَ ربه، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: " إذًا لا يضيعنا "..
يا لها من كلمة عظيمة تنبئ عن إيمان عميق وتوكل عظيم وثقة لا حدود لها بخالق الأرض والسماوات! ويا لها من نفوس كبيرة عرفت خالقها وذاقت حلاوة الإيمان وبردَ اليقين حتى في أحلك الظروف وأصعب المواقف فتوكلت عليه!
لقد نسي الكثيرُ من الناس في غمرة الأحداث والفتن والمصائب والكوارث أن الله هو الذي بيده الموت والحياة, وكل شيء عنده بمقدار، وأنه كتب الآجال، وقدَّر الأقدار، وحكم بين العباد، ولا يجري في هذا الكون أمر إلا بإرادته ومشيئته، وعنده علم الغيب لا ينازعه فيه أحد قال تعالى: ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ).
وكان لضعف الصلة بالله والثقةِ به والتوكلِ عليه والتساهلِ في العبادات والطاعات والتكاسلِ عن الواجبات، وعدمِ شكر النعم؛ الدورُ الأكبر في ضيق النفوس وتكدّر الأحوال, فكيف ترجو السعادة وتريد العون وتتطلع إلى الفرَجِ والأمنِ النفسي وثقتُك بالله ضعيفة وتوكلُك عليه مهزوز..
قال عامر بن قيس: " ثلاث آيات من كتاب الله استعنت بهن على ما أنا فيه: قرأت قول الله تعالى: ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ )، فعلمت وأيقنت أن الله إذا أراد بي ضرًّا لم يقدر أحد على وجه الأرض أن يدفعَه عني، وإن أراد أن يعطيني شيئًا لم يقدر أحد أن يأخذَه مني، وقرأت قوله تعالى: ( فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ )، فاشتغلت بذكره - جل وعلا - عمّا سواه، وقرأت قوله تعالى: ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )، فعلمت وأيقنت وازددت ثقةً بأن رزقي لن يأخذه أحد غيري ".
عباد الله، وفي أحلك الظروف وأصعب المواقف في حياة الناس تندثر القيم، وتفسد الكثير من الأخلاق، وتسوء الكثير من العلاقات، وترغَب النفوس في الانتقام وتحقيق هوى النفس، وهنا تظهر النفوس الكبيرة التي تترفع عن سقطات الأخلاق وخوارم المروءة؛ فتحسن في تصرفاتها وأعمالها، وتحسن مع الآخرين قال تعالى: ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ).
والمحسن في عمله وتصرفاته وسلوكه يظل محسنًا مهما كثرت الابتلاءات والمصائب والفتن، وهو أيضًا لا يغتر بهذه الدنيا ولا يُفتَن بشهواتها وأموالها ومناصبها.. بل يظل ثابتًا على الحق والخير، فهذا نبي الله يوسف - عليه السلام - دخل السجن ظلمًا وعدوانًا فقال له زملاؤه بالسجن وقد طلبوا منه أن يفسّر لهم رؤياهم.. قالوا له: ( نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ).
 وبعد أن خرج وأصبح في قصر الملِك وتحت يده الجيوش والأموال جاء إخوته إليه وهم لا يعرفونه يستجْدون منه ويطلبون أن يُوفِي لهم الكيل، واتهموا أخاه بسرقة صُواع الملِك فلم يكف ما فعلوا بيوسف - عليه السلام-: ( قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ).
وهكذا يوسف - عليه السلام - كان محسنًا وهو في السجن ومحسنًا وهو على كرسي الملك..
وهكذا فعل رسولنا - صلى الله عليه وآله وسلم - بمن آذاه ووقف خصمًا لدودًا تجاه دينهِ ودعوتِه، وتجاه من حاربه وأخرجه هو وأصحابه من ديارهم، وتعرض بسبب ذلك لِمحنٍ ومصائبَ ومواقفَ صعبةٍ وشديدة، ومع ذلك كان عظيمًا وكريمًا ومحسنًا، فعفا وتنازل وسامح ولم ينتقم لنفسه..
وهكذا يجب أن تكون أخلاق المسلم؛ لأنه يتعبد الله بذلك، ويطمع فيما عنده، ويتطلع إلى مراتبَ عظيمة بين الناس..
دخل على القاضي ابن هُبَيرة وهو في مجلس القضاء شابان من المسلمين ومعهما رجل مربوط بحبل بينهما، فقالوا أيها القاضي: " إن هذا الرجلَ قتل أبانا ونريدُ القصاص منه ". فالتفت ابن هبيرة إليه وقال: أقتلتَ أباهم. قال: نعم.. ثم قال لهم ابن هبيرة: تقبلون مني مائة من الإبل، وتعفون عنه؟ قالوا: لا نقبل.. قال: فمائتين؟ قالوا: نقبل بثلاثمائة.. فأعطاهم ابن هبيرة ثلاثمائة من الإبل ثم انصرفوا، ثم قام إلى ذلك الرجل وفك وثاقه، وأطلق سراحه, والناس في دهشة وهم يرون ما جرى، قالوا: يا ابن هبيرة, ما رأيناك عملتَ كما عملتَ اليوم! يعترف القاتل وتدافع عنه، وتعطي أهلَ المقتول الديةَ من مالك! قال: أرأيتم إلى عيني اليمنى؟ والله ما أرى بها منذ أربعين سنة، ولقد ضربني هذا القاتل وأنا ذاهب لطلب العلم منذ أربعين سنة، فأردت أن أطيع الله فيه كما عصى الله فيَّ.. "
أي نفوس هذه! لا تحمل الأحقاد ولا الضغائن ولا حب الانتقام.. ليس عجزًا أو جبنًا أو خوفًا.. ولكن طمعًا في رضا الله ومغفرته وفضله..
واليوم تحمل قلوبُنا الحقدَ والبغضاءَ على بعضنا البعض بسبب موقف تافه أو خلاف في الرأي، أو شِجارٍ على متاع من الدنيا قليل, وتستمر العداوة، وتقطّع الأرحام، وينتشر الظلم بين الناس، فتفسد حياتنا ويطول شقاؤنا..
عباد الله، وفي الظروف الصعبة التي تمر على الإنسان في مسيرة حياته فإنه يحتاج إلى من يقف بجانبه ويساعده ليتجاوز هذه الصعاب وهذه المحن، وهذا من الواجب الشرعي على المسلم تجاه إخوانه حسب قدرته واستطاعته، وهو كذلك التزام أخلاقي أمام الناس جميعًا..
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة ".
هذا الفاروق عمر - رضي الله عنه - خليفة المسلمين، وجد - وهو يتفقد أحوال المجتمع المسلم في المدينة بالليل- امرأةً في حالة المخاض تعاني من آلام الولادة، وليس عندها إلا زوجها، وهم غرباء على المدينة، فعاد إلى زوجته، وقال لها: " هل لكِ في خير ساقه الله إلينا"؟ فكانت هي تمرِّض المرأة في الداخل، وهو في الخارج منهمك في إنضاج الطعام بالنفخ على الحطب تحت القِدر حتى يتخلل الدخان لحيته، وتفيض عيناه بالدمع، لا من أثر الدخان الكثيف فحسب، بل شكرًا لله أن هيَّأه وزوجته لإدخال السرور وقضاء حوائج الناس..
إنها نفوس كبيرة تتطلع إلى رضا الله، وما أعده لعباده في الدار الآخرة.. قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ).
ومرّ عمرُ بن عبيد الله بن معمر بعبد يأكل عند بستان في المدينة وبين يديه كلب: إذا أكل لقمة أعطاه لقمة, فقال له عمر بن عبيد الله: أهذا الكلب لك؟ قال: لا، قال: فَلِم تطعمه مثلما تأكل؟! قال: إني أستحي من ذي عينين تنظر إليَّ وأنا مستبِدّ بمأكولٍ من دونه.. قال: أحرّ أنت أم عبد؟! قال: بل عبد لبني عاصم... فأتى عمر ناديَهم فاشتراه, واشترى البستان, ثم جاءه فقال: لقد اشتريتك وأعتقتك لوجه الله؟ قال: الحمد لله وحده ولمن أعتقني بعده.. قال: وهذا البستان لك. قال: أُشهدك أنه وقف على فقراء المدينة.. قال: ويحك تفعل هذا مع حاجتك؟ قال: إني أستحي من الله أن يجود لي بشيء فأبخل به على خلقه ".
إنها نفوس كبيرة، وهِمَم عظيمة، وأخلاق تسع الإنسان والطير والحيوان، ونحن هذه الأيام أحوج ما نكون فيما بيننا إلى الحب والتراحم والتسامح، وتقديم المعروف وبذل النفع.. فانظروا إلى الفقراء والمحتاجين والأيتام؛ كلّ في حارته وجيرانِه، والحيِّ الذي يسكن فيه، لعل رحمة الله تصيبنا فترفع البلاء عنا أجمعين..
اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ما فسد من أحوالنا.. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
 عباد الله، إن بعد العسر يسرًا.. وإن بعد الشدة فرجًا ومخرجًا، وإنها لسُنة من سنن الله الذي بيده كل شيء، وإرادته فوق كل شيء؛ مهما كانت قوة البشر، ومهما أحكمت خططهم، ومهما كثرت عُدتهم وأعدادهم، ومهما بلغ كيدهم وبطشهم وجبروتهم..
هذا يوسف - عليه السلام - وقد ألقاه إخوته في البئر وهو طفل صغير في مكان مهجور وبعيد، ولا يعلم بذلك أحد من الناس كيف جاءه الفرج وطوق النجاة رغم هذه الشدة والبلاء الذي يعيشه.. لقد جاء الفرج وهو يلقى في البئر ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ )، أوحى الله إليه وحيَ إلهام.. لا تخف من الهلاك، ستصل إلى مكانة ومنزلة تنبئهم بأمرهم، بكيدهم وهم لا يشعرون..
ولما أخرج الله يوسف - عليه السلام - من السجن لم يرسل صاعقة تخلع باب السجن.. ولم يأمر جدران السجن فتتصدّع.. بل أرسل رؤيا تتسلل في هدوء الليل لخيال الملك وهو نائم.. فيطلب من سيدنا يوسف أن يفسّرها ويخرج من السجن عزيزًا كريمًا... وأنت .. كم من مصيبةٍ كنت تظنها ستكون القاضية! وكم من حزنٍ ظننت أن الدنيا لن تحلوَ بعده! وكم من عزيز فقدته فتوهمتَ أنه لم يعد بعده شيء يستحق الحياة! كم وكم! لكن الحياة عادت كما كانت، ولربما بطعم أحلى وأقدار أجمل، فلا تتضايق وانتظر الفرج.. فثقوا بالله وتوكلوا عليه؛ تصلح أحوالكم، وتطيب نفوسكم وقدموا بين يدي ربكم عبادةً خالصة، وعملًا صالحًا، وخُلقًا حسنًا وسلوكًا سويًّا، واحذروا من وساوس الشيطان ونزغاته، واحفظوا دماءكم وأموالكم وأعراضكم، وكونوا عباد الله إخوانًا.
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

1 التعليقات:

بارك الله فيه واجزل له المثوبة

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More