مملكة القلوب
[ 22 صفر 1434هـ الموافق 4/1/2012م ]
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحًا لذكره ، وسببًا للمزيد من فضله ، وجعل لكل شيء قدرًا ، ولكل قدر أجلًا ، ولكل أجل كتاب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة تزيد في اليقين ، وتثقِّل الموازين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، أمين وحيه ، وخاتَم رسله ، وبشير رحمته ، ونذير نقمته ، بعثه بالنور المضي ، والبرهان الجلي ، فأظهر به الشرائع المجهولة ، وقمع به البدع المدخولة ، وبيّن به الأحكام المفصولة , صلى الله عليه ، وعلى آله مصابيح الدجى ، وأصحابه ينابيع الهدى ، وسلم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد , فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
عبادَ الله , القلب أمير البدن بلا منازع ، كل عضو في البدن ، وكل خَلِيَّة فيه بحاجة إليه , أما هو فمستقل بذاته , وله الدور الأعظم في سعادة الإنسان وراحتهِ في الدنيا والآخرة ، فرسالات الأنبياء ( عليهم صلوات الله وسلامه ) ما جاءت إلا لتعالج القلوب وتدعوها إلى أسباب صلاحها وحياتها ، وتحذرَها من طرق الفساد وسبل الغي والانحراف ، وكانت رسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) للقلوب أولًا فملأتها بالحياة الإيمانية ، وبثت فيها التوحيد الخالص لله رب العالمين ، وغرست فيها فضائل الأخلاق وقيم الخير ، فقد أمر ( تعالى ) بتطهير القلب ، وتنقيته ، وتزكيته ، بل جعل الله ( تعالى ) من أعظم غايات الرسالة المحمدية تزكية الناس ، وقدّمها على تعليمهم الكتاب والحكمة لأهميتها ، يقول الله ( تعالى ) : ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [ سورة الجمعة : 2 ] , والتزكية لا تكون إلا للقلب ويقول ( تعالى ) عن اليهود والمنافقين : ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [ المائدة : 41 ] , وتقوى الله ومخافته وتعظيمه لا يكون إلا في القلوب قال ( تعالى ) : ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [ الحج : 32 ] ، فالقلب التقي حريص كل الحرص على الالتزام بأوامر الله في كل أحواله .
إن بناء المجتمع وتآلف الأفراد واجتماع الناس ونبذ الفرقة والعصبية والجاهلية والظلم والتعدي لا يكون حقيقة واقعة تعيشها المجتمعات إلا إذا صدقت القلوب وصلحت أحوالها وعلم الله إخلاصها قال ( تعالى ) : ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [ آل عمران : 103 ] ويقول لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ولصحابته وللمؤمنين : ﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [ الأنفال : 62 , 63 ] , والقلب هو الذي يفرق بين الحق والباطل والخير والشر والحلال والحرام ، وعندما ينحرف الإنسان عن الطريق الصحيح فإن ذلك دليل على فساد قلبه قال ( تعالى ) : ﴿ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [ الحج : ٤٦ ] .
أيها المسلمون , لقد ذكر الله ( سبحانه ) قصة أصحاب الجنة ﴿ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ . وَلَا يَسْتَثْنُونَ . فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ . فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴾ [ القلم : 17 – 20 ] , فسبحان الله ! مجرد الإضمار في القلب والنية لعمل المنكر وفساد المقصد سبب للهلاك في الدنيا ، فكيف بمن يفعل ذلك ؟ ويمارس المنكر ويرتكب المحرمات في واقع الحياة ؟
لذا كان على كل مسلم أن يتعاهد قلبه بالإيمان والعمل الصالح فيحصل الأمن النفسي والاطمئنان بالله ، فتجد هذه القلوب صابرة عند الشدائد ، ثابتة مرابطة عند الابتلاءات ، لا ترتاب ولا تنحرف ولا تضل ولا تضجر ، وزادُها في ذلك كثرة الذكر والدعاء ، قال ( تعالى ) : ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [ الرعد : 28 ] , وربط الله ( تعالى ) النجاة يوم القيامة بسلامة القلوب : ﴿ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الشعراء : 88 ، 89 ] ، والقلب السليم هو القلب السالم من الشرك والغل والحقد والحسد وغيرها من الآفات والشبهات والشهوات المهلكة .
أيها المسلمون , لقد ضرب الصحابة ( رضي الله عنهم ) أروع الأمثلة في سلامة القلوب وطهارة الصدور ، فكان لهم من هذه الصفة أوفر الحظ والنصيب ، فلقد كانوا ( رضي الله عنهم ) صفًا واحدًا يعطف بعضهم على بعض ويرحم بعضهم بعضًا ويحب بعضهم بعضًا , وبذلك علت مكانتهم وارتفع قدرهم , قال سفيان بن دينار لأبي بشر ( أحد السلف الصالحين ) : « أخبرني عن أعمال من كان قبلنا ؟ قال : كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا . قال سفيان : ولم ذاك ؟ قال أبو بشر : لسلامة صدورهم » , وهذا ابن عباس ( رضي الله عنهما ) يقول : « إني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلدًا من بلدان المسلمين فأفرح به ، ومالي به سائمة » .
إن رقة القلب وسلامة الصدر نعمة من أجل النعم وأعظمها ، وما من قلب يُحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعودًا بالعذاب قال ( سبحانه ) : ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [ الزمر : 22 ] .
إنه ينبغي علينا - حتى نعيش حياة طيبة آمنة يسود فيها الحب والتعاون والتآخي وينتشر فيها المعروف وتغلب فيها مصالح الأمة على المصالح الشخصية حتى وإن اختلف الناس في تطلعاتهم وأفكارهم وطرق حياتهم - إن أردنا ذلك يجب أن تكون لدينا قلوب حية تقية ورعة تخاف الله وترجو الآخرة قال ( تعالى ) : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [ لأنفال : 2 ] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم , أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
أيها المسلمون , عندما تغيرت القلوب وفقدت الزاد الإيماني والروحي وطغت المادة على حياتنا تجرأ كثير من الناس على حدود الله وحرماته فانتهكوها وجاهروا بالمعاصي واستطال المسلم في عرض أخيه وبغى عليه على أتفه الأسباب ، بل وسفكت الدماء وأزهقت الأرواح جماعات وأفرادًا , وظهر الحقد والحسد والغدر والخيانة ، وضاقت الحياة على الأسرة الواحدة في البيت الواحد وما بين الإخوان والجيران ، ونشب الصراع والتنافس المقيت على الدنيا وأموالها ومناصبها وشهواتها ، وحل التقاطع والهجران بين الناس .
وإذا لم نتدارك أخطاءنا وتقصيرنا ولم تستجب القلوب للأمر الرباني ولم تتربَّ على الزاد الإيماني ولم تتعظ بما يجري حولها وتستفيد من دروس التاريخ وأحداث الزمان استمر شقاؤها وزادت تعاستها ثم يأتي بعد ذلك أمر الله بهلاكها قال ( تعالى ) : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنعام : 42 - 45 ] .
أيها المسلمون , إن الناس في أي مجتمع من المجتمعات قد يختلفون في كثير من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهذه سنة الله ، والله خلقهم كذلك وإن أصحاب القلوب السليمة ليدركون أن هذا الاختلاف لا يكون على حساب ثوابت هذه الأمة ودينها وعقيدتها ومصالحها ، وإنما يكون الاختلاف في وجهات النظر حول إدارة البلاد وبرامج العمل وأساليبه وطرق التنافس من أجل أداء أفضل يثمر في واقع الأمة ، فتختلف الطرق والأساليب والرؤى ولا تختلف القلوب ولا تتغير النفوس .
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق