تعديل

الشيخ محمد سعيدباصالح

الاثنين، 27 مايو 2013

موت العلماء


موت العلماء
المكان : جامع الرحمة بالشحر
الزمان : 2/6/1434هـ الموافق 12/4/2013م

الخطبة الأولى
( الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم, يدعون من ضل إلى الهدى, ويصبرون منهم على الأذى, يحيون بكتاب الله الموتى, ويبصرون بنور الله أهل العمى, فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه! وكم من ضالٍّ تائهٍ قد هدوه! فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين, وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين ).
بهذه الكلمات الطيبات سجّل الإمام أحمد -رحمه الله- فضل العلماء ودورهم وأثرهم في حياة الناس.
سلام عليكم يا ورثةَ الأنبياء، أنتم كالنجوم في السماء، والأعلام في الأرض، بكم تأتمّ الهداة, وبكلماتكم يشدو الحداة, كم من إنسانٍ خرج من الظلمات إلى النور بفضل دعوتكم، وكم من غافلٍ آب إلى ربه بفضل ذكراكم, نعم العمل عملكم! ونعم السعي سعيكم! خلفتم رسول الله من بعده تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر, صدق فيكم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من الناس ناسًا مفاتيح للخير, مغاليق للشر, وإن من الناس ناسًا مفاتيح للشر, مغاليق للخير, فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه, وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه )
طوبى لكم حين جعلتم حياتكم لله, وفي سبيل الله، طوبى لكم حين حملتم الراية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، طوبي لكم حين ذكّرتم بأعظم كتاب نزل من السماء، طوبى لكم حين فتحتم للناس كنوز السنة, وأوقدتم مصابيح الهدى، طوبي لكم ما سمع مدى أصواتكم إنس أو جن أو شجر أو حجر، طوبى لكم تشهد لكم المنابر، وتعرف أصواتكم المساجد، وتبكي على فراقكم المحاريب، طوبى لكم حين شنّفتم الآذان بذكر الله، طوبى لكم ما أثنيتم على الله، طوبى لكم ما صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, طوبى لكم ما أمرتم بمعروف ونهيتم عن منكر.
( ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال: إنني من المسلمين ).
من أحسن قولًا من إنسان دعا إلى الله, وحث الناس على الإيمان بالله وتوحيده، والعمل بطاعته، وعمل صالحًا واجتنب المحرمات، واتخذ الإسلام دينًا!
من أحسن قولًا من إنسان يدل الناس على ربهم، ويعرفهم بالذي خلق الأرض والسموات العلا, الرحمن على العرش استوى، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى!
أيها المسلمون، لقد جاءت الآيات تترى والأحاديث في فضل العلماء ومكانتهم عند الله، وهل يستوي من يدعو إلى الله ومن لا يدعو؟ ( هَلْ يَسْتَوي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ )، ( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ ).
وأي مزية فوق مزية رجل آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ ، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا.
إنهم ورثة الأنبياء فهموا مراد الله وعملوا بما علموا وبلغوه للناس فانتفع بدعوتهم وعلمهم خلق كثير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أصَابَ أرْضاً؛ فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبةٌ قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ، وَالعُشْبَ الكَثِيرَ ، وَكَانَ مِنْهَا أجَادِبُ أمْسَكَتِ المَاءَ ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ ؛ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كلأً ، فَذلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأسَاً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ).
وما أجمل أن يهدي الله على يديك رجلًا، قال صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: ( فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ).
ورصيد الدعوة أفضل الأرصدة، يزيد بزيادة المهتدين، ولا ينقطع بالموت قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً ), وقال: ( إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )
وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أدْنَاكُمْ. ثُمَّ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأهْلَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ ), وقال: ( مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَبْتَغِي فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَريقاً إِلَى الجَنَّةِ، وَإنَّ المَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضاً بِمَا يَصْنَعُ ، وَإنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ حَتَّى الحيتَانُ في المَاءِ ، وَفضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ ، وَإنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ، وَإنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يَوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً وَإنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بحَظٍّ وَافِرٍ ).
والعلم سبب معرفة الله وخشيته قال تعالى: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء).
والله لا ينتزع العلم انتزاعًا من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزعهُ مِنَ النَّاسِ، وَلكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأفْتوا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأضَلُّوا ).
فموت العلماء مصيبة عظيمة، ورزية جسيمة، بذهابهم تنقص الأرض، قال تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا )
قال ابن عباس: هو خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها, وقال مجاهد: هو موت العلماء, وقال عطاء: نقصانها موت العلماء وذهاب الفقهاء.
الأرض تحيَا إذا ما عَاش عالمها * مَتَى يمُتْ عَالم منها يمُت طَرفُ
كالأرض تحْيَا إذا ما الغيث حَل بها * وإن أبى عَاد في أكنافهَا التَّلَفُ
قال عبد الله بن مسعود: موتُ العالم ثلمةٌ في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
..
أمة الإسلام، تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى ربُّنا، وإنا بفراقك أبا محمد لمحزونون.
يا أمةً غاب عنها بدرها الساري * وجف من أرضها سلسالها الجاري
هل مات من عاش نوراً نستضيء به * في مدلج الأمر من همٍّ وأخطارِ
هل مات من نرتوي من عذب مورده * صفواً من العلم فيضاً دون إقتارِ
هل غاب عنا نمير العلم في زمن * تشكو البريّات فيه قحْطَ آبارِ
سفينة الوعظ تبكي موت قائدها * وتشتكي هول إدلاجٍ وإبحارِ
هل من محبٍّ لدين الله ما ذرفت * عيناه في كل أرجاءٍ وأمصارِ
حبٌّ لنشر الهدى والخير في جلدٍ * وهمةٌ تبلغ الجوزا وإصرارِ
مواعظٌ كرحيق الشهد شافية * تنير أعماق مهمومٍ ومحتارِ
مُبَجَّلٌ عند كل الناس محترمٌ * مقدَّرٌ في بواديهم وحُضّارِ
وكم له الفضل بعد الله في مِنَنٍ * من وابل النفع أو من دفع أضرار
يبكي مصلاك والذكر الحكيم لما * عمرتَ منه الليالي خير إعمارِ
يبكي الصحيحان والتفسير ما فقدوا * من حسن وصل وتقدير وتكرارِ
يا من يباهي بحب الشيخ هل جُمِعت * قواك للسير في منهاج أبرارِ
فانهض لرفعة دين الله مقتدياً * به فقد كان يحذو حذو مختارِ
تأسَّ بالمصطفى الهادي وصحبته * وانظر لأخبار خبّاب وعمارِ
نستودع الله من عشنا نبجِّله * ويا إمام الهدى في ذمة الباري
رحلتَ عن هذه الدنيا التي لعبت * بنا إلى جود رحمنٍ وغفارِ
يا رب يا من له تشدو ضمائرنا * ويا مقدّر آجال وأعمارِ
ومن إذا ضاقت الدنيا بما رحبت * نلوذ منه بركن غير منهارِ
اخلف على أمة الإسلام في علَمٍ * علامة طيّب الآثار مغوارِ
واجعل جنان الرضا والخلد منزله * ما بين حور وولدان وأنهارِ
اللهم اغفر لأبي محمد وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه.
ألا صلوا وسلموا ..

2 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More