وانتصرت
غزة
[ 3/11/1435هـالموافق
29/8/2014م ]
الخطبة الأولى
أيها
الأحبة في الله،
يا من تابعتم أحداث غزة بأنين قلوبكم، ودموع مآقيكم، ودماء شرايينكم. يا من تضرّمت
قلوبكم، وانحبست أنفاسكم وأنتم تنتظرون الفرج من الله العزيز الحكيم. ها هو ذا الفرج
قد أتى، وقد انقشعت غمامة المطر الناري، ووضعت الحرب أوزارها، وانكشف عن صمود لم يشهد
له التاريخ المعاصر مثيلًا، نحو شهرين من الحمم النارية والقصف، لكنه واجه صمود شعب
كامل بأطفاله وشيوخه وشبابه؛ شعب لا يشكو, ولا يشكك في القيادة, ولا تتبدل قناعاته
بالرزايا والمحن، شعبٌ صابر محتسب، يحتسب بنيه عند الله، ويحتسب ما أصابه من شدة
في يوم يوفى فيه الصابرون أجرهم بغير حساب؛ إرادة صلبة لا تعرف الوهَن، وإيمان عظيم بالله في
أشد المحن حُلْكَةً وسوادًا، حتى آتى الصبر ثماره، وأوقف اليهود الحرب وقبلوا شروط
المقاومة دون تحقيق أي أهداف تُذْكَر؛ فلا قواعد الصواريخ دُكَّت، ولا الأنفاق
دمّرت، ولا المقاومة الجهادية سُحقت، ولا غزت سقطت، ولا إرادة الأمة الفلسطينية تضعضعت.
وما أصاب المسلمين من قتل وجراحات أصاب اليهود مثله ولكن شتان بين مؤمن وكافر! ﴿
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ
مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾
"
أي: أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون
من الله المثوبة والنصر والتأييد، وهم لا يرجون شيئًا من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد
منهم، وأشد رغبة في إقامة كلمة الله وإعلائها ".
لقد قهرت غزة ( الجيش الذي لا يُقْهَرُ
)، وأثبت أنه يقهر ويدحر، وأن هذه المقالة للترويع لا أقل ولا أكثر. لقد صمدت غزة
أمام رابع قوة في العالم، وأثبت غزة أن العاقبة للمتقين، وأن النصر مع الصبر، وأن
الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا.
ولما كانت غزة عصية على جنود الاحتلال، أبيةً
على أهداف الكيان الصهيوني، فإنّ جنوده كثيرًا ما يرددون عبارة ( لِيخ لغزة )، وهى
عبارة إسرائيلية شهيرة تعني ( اذهب إلى غزة )، وهي المرادف الإسرائيلي لـ: لعبارة
( اذهب إلى الجحيم )! فغزة هي جحيم الإسرائيليين.
لقد أدرك أهل غزة أن النصر من عند الله،
وأن ما عند الله خير وأبقى، وصارت الشهادة في سبيل الله أمنية الشباب هناك؛ كل منهم
ينتظر دوره بفارغ الصبر، فقد علموا أن ما انتُزع بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، وأن
الدماء الطاهرة هي الجسور الحقيقية للوصول إلى العزة والكرامة، قال جل وعلا: ﴿ وَلَا
تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ
يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ
مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ
آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾.
وماذا بعد أن تكون الشهادة اصطفاء يُنعم
الله به على من يشاء؟ ماذا بعد ذلك من ترغيب؟ لقد جعل الله الشهداء في منزلة يذكرهم
فيها مع من اصطفى من أنبيائه فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ
مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾، وبشّرهم بالأجر التام، والنور الخاص
بهم، فقال تعالى: ﴿ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ
﴾، وواسى أقرباءهم وذويهم فقال لهم: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا
آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ
مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.
إننا نواسي جراحنا في إخواننا في غزة بأننا
نحسبهم - والله حسيبهم -بأنهم قضَوا شهداء، ينافحون عن دينهم ومقدساتهم. وإن كنا لا
نزكّي كل فرد فيهم بعينه أو نشهد له بالشهادة في سبيل الله؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم سمع بعض الصحابة يشهدون لفلان وفلان بالشهادة فقال: " اللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ ( أي يُجْرَح )
فِي سَبِيلِهِ " متفق عليه. هنيئًا لغزة ما حصل لها من نصر وعزة،
ويوم القيامة يعز الله الشهداء أكثر من معزتهم في الدنيا، قال قتادة: ما
نعلم حيًا من أحياء العرب أكثر شهيدًا أعز من الأنصار. رواه البخاري.
أيها الأحبة، للشهيد عند الله أجر عظيم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ
اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا،
وَمَا فِيهَا إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ
أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى " رواه البخاري.
وقال عليه الصلاة والسلام : " لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ:
يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ
مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ
تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ
اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ
مِنْ أَقَارِبِهِ " رواه الترمذي وصححه الألباني. اللهم تقبل شهداء فلسطين،
وآوهم في أرفع درجات جناتك، واخلفهم في أهلهم، إنك سميع الدعاء.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله
العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
أيها المسلمون، يواجه أهل غزة تحديات عظيمة،
في مقدمتها إسرائيل، ومن ورائها من يدعمها، ومن يخون الله ورسوله والمؤمنين.
إن غزة اليوم لهي في أمسّ الحاجة إليكم
ماديًا ومعنويًا؛ بحاجة إلى وقوفكم معها بالمال واللسان والقلم والإعلام، بحاجة
إلى فهم طبيعة المعركة مع العدو، ومعرفة أعدائكم الحقيقيين، بحاجة إلى كتابتكم عن
قضية فلسطين وفهم جوهرها، والإعداد للمعركة القادمة؛ الإعداد على مستوى الشعوب
والأفراد والحكومات، بحاجة إلى المال للبناء والإعمار والإعداد، ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ ﴾، ﴿ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ
وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾، فالمال عصب الحياة، وهو عنصر أساسي في
الجهاد وإعادة البناء وترميم ما تهدم وإعادة ترتيب الصفوف، والاستمرار في مقاومة
العدو، وإعداد العدة الكاملة لتحرير فلسطين كلها، والجهاد باللسان والمال لا يقل
أهمية عن الجهاد بالنفس؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جاهدوا
المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ".
بني الإسلام!
ما زالت مواجعُنا مواجعَكم .. مصارعُنا مصارعُكم
إذا ما أغرق الطوفان شارعَنا .. سيَغرَقُ
منه شارعُكم
ألسنا إخوة في الدين قد كنا .. وما زلنا،
فهل هُنْتُم وهل هُنّا!
أيعجبُكم إذا ضِعنا! .. أيسعدُكم إذا جُعنا!
وما معنى بأن ( قلوبكم معنا )!
ألسنا يا بني الإسلام إخوتَكم!.. أليس مِظلّةُ
التوحيد تجمعنا!
ألم يهززْكَ منظرُ طفلةٍ ملأتْ .. مواضعَ
جسمِها الْحُفَرُ!
ولا أبكاك ذاك الطفلُ في.. هلَعٍ بظهر أبيه
يستترُ!
فما رحموا استغاثتَه .. ولا اكترثوا ولا
شعَرُوا
فخرّ لوجهه ميتًا .. وخرّ أبوه يحتضرُ
يا من بيده ملكوتُ السماوات والأرض، هيئ
للقدس فرسانَها، وفكّ بهم أسرَها، وارزقنا في مسجدها الأقصى صلاة آمنة مطمئنة نهنأ
بركوعها وسجودها، إنك سميع الدعاء. اللهم كن في عون إخواننا في فلسطين، اللهم رد عنهم
ظلم اليهود وأعوانِهم، اللهم ارحم شهداءهم، وفك أسراهم، واخلفهم في أهلهم وذويهم، اللهم
أيّد بجندك جنودهم، اللهم بارك لهم في الزاد والعتاد، اللهم احمهم من شر الدسائس والمؤامرات،
اللهم حقق آمالهم، وآمن روعاتِهم، واحمِ أعراضهم، يا ناصر المؤمنين، ويا معز الطائعين..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين
والآخرين..
0 التعليقات:
إرسال تعليق