الليلة المباركة
١٤|٩|١٤٣٨هالموافق ٩|٦|٢٠١٧م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب/ محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، يقول الله جل وعلا: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ).
فرمضان شهر القرآن، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن على جبريل في رمضان مرة أو مرتين، فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه مرتين.
هذا الكتاب العظيم الذي أنزله الله هاديًا للعباد، ومشتملًا على بيِّناتٍ من الهدى والفرقان، فيه الأخبار الصادقة، والأحكام العادلة، والآيات البينات، والعظات البالغات، والعلم والحكمة، والنور والرحمة، والطمأنينة والسكينة، والإيمان واليقين، وأنباءُ المرسلين، وأخبارُ السابقين، ومصارعُ الغابرين، ونهايات الظالمين، ودلائل القدرة الإلهية، والبراهينُ الدالة على الحق المبين.. ( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ).
ما إن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الحق تبارك وتعالى: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ما إن سمع هذه الآيات الكريمة حتى رجف فؤاده، واقشعر جلده، وانتفضت بوادره..
( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )
وما إن وصل القرآن إلى مسامع الجن حتى ارتاعوا وقالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبًا!
( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ).
فما لبثوا أن انطلقوا إلى قومهم منذرين ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ).
وأنى تصمد له قلوب الإنس والجن ولم تصمد له الجبال!
( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ).
( وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ) أي لَوْ ثَبَتَ أَنَّ كِتَاباً سُيِّرَتْ بِتِلاَوَتِهِ الجِبَالُ، وَزُعْزِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا، أَوْ شُقِّقَتْ بِهِ الأَرْضُ فَتَفَجَّرَتْ عُيُونًا وَأَنْهَارًا - كَمَا حَدَثَ لِلْحَجَرِ حِينَ ضَرَبَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ - أَوْ كَلَّمَ بِهِ أَحَدٌ المَوْتَى، وَهُمْ فِي قُبُورِهِمْ، فَأَحْيَاهُمْ بِقِرَاءَتِهِ، وَتَكَلَّمُوا مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ - كَمَا حَدَثَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ-.. لَوْ ثَبَتَ هَذا لِشيءٍ مِنَ الكُتُبِ لَثَبَتَ لِهَذا القُرْآنِ، الذِي لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ، لِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الإِعْجَازِ وَالحِكَمِ.
أنزله الله في ليلة مباركة، فيها يفرق كل أمر حكيم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " نزل القرآن في رمضان ليلة القدر، فكان في السماء الدنيا، فكان إذا أراد الله أن يحدث شيئًا نزّل، فكان بين أوله وآخره عشرين سنة ".
( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ).
إنها الليلة المباركة التي نزل فيها التشريع الكامل، والحكم العادل، وكلماتُ الله التامات ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ).
إنه أعظم ُكتاب طرق الوجود، وأجلُّ كتاب شنّف الأسماع وسكن القلوب..
( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ).
من أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه ".
فأيُّ بركة على العالمين أعظمُ من بركة تلك الليلة التي نزل فيها كلام رب العالمين نورًا وهدى للناس!
ولشأن ليلة القدر وفضلها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر، وأمر الناس بتحريها والاجتهاد فيها فقال: " تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان " وكان يجتهد في العشر الأواخر كلها قالت عائشة رضي الله عنها: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله ".
وأكثر العلماء على أن ليلة القدر ليلةٌ مبهمة من العشر الأواخر من رمضان، وأرجاها أوتارها، وأرجاها ليلةُ سبع وعشرين، وثلاث وعشرين، وإحدى وعشرين، وأكثرهم على أنها ليلة معينة لا تنتقل، وقال المحققون: إنها تنتقل فتكون في سنةٍ ليلةَ سبع وعشرين وفي سنةٍ ليلة ثلاث وعشرين، وفي سنة ليلةً إحدى وعشرين، وفي سنةٍ ليلةً أخرى. وهذا القول أظهر، وفيه جمع بين الأحاديث المختلفة فيها.
اللهم اهدنا لليلة القدر، ودلنا عليها، ووفقنا فيها لصالح القول والعمل... أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، مرَّ بعض اليهود على الأوس والخزرج فغاظهم تآلفهم فذكّروهم بما كان بينهم في الجاهلية من الفتن فتشاجروا وكادوا يقتتلون فأنزل الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ).
وفي الآية تحذير شديد من كيد وتآمر أهل الكتاب، ودعوة للوفاق والائتلاف بين المسلمين، والمحافظة على الإخوة الإيمانية، وأن أهل الكتاب لا يعجبهم اتفاقُ المسلمين وأُلفتُهم، وأنهم يسعون في الأرض فسادًا بإثارة أسباب الخلاف والاقتتال بين المسلمين لإضعافهم، وفيها التحذير من التلقي عن أهل الكتاب وطاعتِهم واتباعهم في الشرائع والأحكام والسلوك والأخلاق والآداب، والإخبار بأن طاعتهم في ذلك تؤدي حتمًا إلى ما لا تحمد عقباه.
أيها المسلمون، هذه دعوة إلى ضبطِ السلاح وتنظيمهِ ومنعِ حملِه في المجامع العامة كالأسواق والشوارع والملتقيات العامة، ومنعِ إشهارهِ في وجوه الناس، واختيارِ الأكفاء والصالحين لحمل الأمانة وانتقاءِ الجنود المكلفين بتوفير الأمن وحماية المواطنين؛ فليس كل أحد يصلح لحمل السلاح..
وقد خيّم الحزن على المدينة بحادثة القتل الأخيرة، التي راح ضحيتَها الأخ علي سالم السييلي رحمه الله..
نسأل الله الأمن والإيمان، والسلامةَ والإسلام، والتوفيق لما يحب ويرضى.
أيها المسلمون، ما يسمى بالختاميات، بدعة منكرة، مخالفة للهدي النبوي، فيها إضاعة الليالي الفاضلة في اللهو واللعب، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي العشر الأواخر بالقيام والقرآن والدعاء والاستغفار، وهذه أوقات ثمينة وليالٍ نفيسة ينبغي للمسلم أن يستفيد منها في العمل الصالح والتزود من التقوى, ويربأ بنفسه عن هذا اللهو واللعب في أعظم ليالي السنة.
نسأل الله علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، وتوفيقًا خالصًا، وخشية تامة، وتوبة عامة، وإنابة صادقة، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وردنا إليك ردًا جميلًا..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..
١٤|٩|١٤٣٨هالموافق ٩|٦|٢٠١٧م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب/ محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، يقول الله جل وعلا: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ).
فرمضان شهر القرآن، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن على جبريل في رمضان مرة أو مرتين، فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه مرتين.
هذا الكتاب العظيم الذي أنزله الله هاديًا للعباد، ومشتملًا على بيِّناتٍ من الهدى والفرقان، فيه الأخبار الصادقة، والأحكام العادلة، والآيات البينات، والعظات البالغات، والعلم والحكمة، والنور والرحمة، والطمأنينة والسكينة، والإيمان واليقين، وأنباءُ المرسلين، وأخبارُ السابقين، ومصارعُ الغابرين، ونهايات الظالمين، ودلائل القدرة الإلهية، والبراهينُ الدالة على الحق المبين.. ( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ).
ما إن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الحق تبارك وتعالى: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ما إن سمع هذه الآيات الكريمة حتى رجف فؤاده، واقشعر جلده، وانتفضت بوادره..
( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )
وما إن وصل القرآن إلى مسامع الجن حتى ارتاعوا وقالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبًا!
( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ).
فما لبثوا أن انطلقوا إلى قومهم منذرين ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ).
وأنى تصمد له قلوب الإنس والجن ولم تصمد له الجبال!
( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ).
( وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ) أي لَوْ ثَبَتَ أَنَّ كِتَاباً سُيِّرَتْ بِتِلاَوَتِهِ الجِبَالُ، وَزُعْزِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا، أَوْ شُقِّقَتْ بِهِ الأَرْضُ فَتَفَجَّرَتْ عُيُونًا وَأَنْهَارًا - كَمَا حَدَثَ لِلْحَجَرِ حِينَ ضَرَبَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ - أَوْ كَلَّمَ بِهِ أَحَدٌ المَوْتَى، وَهُمْ فِي قُبُورِهِمْ، فَأَحْيَاهُمْ بِقِرَاءَتِهِ، وَتَكَلَّمُوا مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ - كَمَا حَدَثَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ-.. لَوْ ثَبَتَ هَذا لِشيءٍ مِنَ الكُتُبِ لَثَبَتَ لِهَذا القُرْآنِ، الذِي لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ، لِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الإِعْجَازِ وَالحِكَمِ.
أنزله الله في ليلة مباركة، فيها يفرق كل أمر حكيم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " نزل القرآن في رمضان ليلة القدر، فكان في السماء الدنيا، فكان إذا أراد الله أن يحدث شيئًا نزّل، فكان بين أوله وآخره عشرين سنة ".
( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ).
إنها الليلة المباركة التي نزل فيها التشريع الكامل، والحكم العادل، وكلماتُ الله التامات ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ).
إنه أعظم ُكتاب طرق الوجود، وأجلُّ كتاب شنّف الأسماع وسكن القلوب..
( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ).
من أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه ".
فأيُّ بركة على العالمين أعظمُ من بركة تلك الليلة التي نزل فيها كلام رب العالمين نورًا وهدى للناس!
ولشأن ليلة القدر وفضلها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر، وأمر الناس بتحريها والاجتهاد فيها فقال: " تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان " وكان يجتهد في العشر الأواخر كلها قالت عائشة رضي الله عنها: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله ".
وأكثر العلماء على أن ليلة القدر ليلةٌ مبهمة من العشر الأواخر من رمضان، وأرجاها أوتارها، وأرجاها ليلةُ سبع وعشرين، وثلاث وعشرين، وإحدى وعشرين، وأكثرهم على أنها ليلة معينة لا تنتقل، وقال المحققون: إنها تنتقل فتكون في سنةٍ ليلةَ سبع وعشرين وفي سنةٍ ليلة ثلاث وعشرين، وفي سنة ليلةً إحدى وعشرين، وفي سنةٍ ليلةً أخرى. وهذا القول أظهر، وفيه جمع بين الأحاديث المختلفة فيها.
اللهم اهدنا لليلة القدر، ودلنا عليها، ووفقنا فيها لصالح القول والعمل... أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، مرَّ بعض اليهود على الأوس والخزرج فغاظهم تآلفهم فذكّروهم بما كان بينهم في الجاهلية من الفتن فتشاجروا وكادوا يقتتلون فأنزل الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ).
وفي الآية تحذير شديد من كيد وتآمر أهل الكتاب، ودعوة للوفاق والائتلاف بين المسلمين، والمحافظة على الإخوة الإيمانية، وأن أهل الكتاب لا يعجبهم اتفاقُ المسلمين وأُلفتُهم، وأنهم يسعون في الأرض فسادًا بإثارة أسباب الخلاف والاقتتال بين المسلمين لإضعافهم، وفيها التحذير من التلقي عن أهل الكتاب وطاعتِهم واتباعهم في الشرائع والأحكام والسلوك والأخلاق والآداب، والإخبار بأن طاعتهم في ذلك تؤدي حتمًا إلى ما لا تحمد عقباه.
أيها المسلمون، هذه دعوة إلى ضبطِ السلاح وتنظيمهِ ومنعِ حملِه في المجامع العامة كالأسواق والشوارع والملتقيات العامة، ومنعِ إشهارهِ في وجوه الناس، واختيارِ الأكفاء والصالحين لحمل الأمانة وانتقاءِ الجنود المكلفين بتوفير الأمن وحماية المواطنين؛ فليس كل أحد يصلح لحمل السلاح..
وقد خيّم الحزن على المدينة بحادثة القتل الأخيرة، التي راح ضحيتَها الأخ علي سالم السييلي رحمه الله..
نسأل الله الأمن والإيمان، والسلامةَ والإسلام، والتوفيق لما يحب ويرضى.
أيها المسلمون، ما يسمى بالختاميات، بدعة منكرة، مخالفة للهدي النبوي، فيها إضاعة الليالي الفاضلة في اللهو واللعب، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي العشر الأواخر بالقيام والقرآن والدعاء والاستغفار، وهذه أوقات ثمينة وليالٍ نفيسة ينبغي للمسلم أن يستفيد منها في العمل الصالح والتزود من التقوى, ويربأ بنفسه عن هذا اللهو واللعب في أعظم ليالي السنة.
نسأل الله علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، وتوفيقًا خالصًا، وخشية تامة، وتوبة عامة، وإنابة صادقة، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وردنا إليك ردًا جميلًا..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..
0 التعليقات:
إرسال تعليق