أسرار التعبير القرآني
المحاضرة الأولى
[ 28 شوال 1433هـ ]
الفاصلة القرآنية
تمهيد
أسرار التعبير القرآني أكبر من كل المحاولات والدراسات والجهود والطاقات البشرية فالقرآن مثل نظام الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة , وتعاوروه من كل ناحية , وأخلقوا جوانبه بحثًا وتفتيشًا , ثم هو بعد لا يزال عندهم على كل ذلك خلقًا جديدًا , ومرامًا بعيدًا , وصعبًا شديدًا , وهذه المحاضرات ترمي إلى لفت النظر إلى أسرار التعبير القرآني , وتعمل على إثارة الدافعية للتدبر والتأمل والتفكر .
تميز القرآن العظيم بظاهرة فريدة هي ظاهرة التآلف والتناسق والتلاؤم الصوتي في الحروف والكلمات والتراكيب , عبر الرافعي عن هذا التلاؤم الصوتي بقوله : (( هو تساوق هذه الحروف على أصول مضبوطة من بلاغة النغم بالهمس والجهر والقلقلة والصفير والمد والغنة ونحوها )) .
الفاصلة القرآنية
ومما راعاه القرآن في أسلوبه وتعبيره الفاصلة , فقد راعاها القرآن تحقيقًا لجمال النظم ورعاية الجرس الصوتي والمشاكلة اللفظية . والفاصلة هي آخر كلمة في الآية .
وقد أدت مراعاة القرآن للفواصل إلى جملة تغييرات خرجت ببعض التراكيب عن النمط العادي وقد شمل ذلك :
1- التقديم والتأخير كما في قوله - تعالى - : ﴿ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ [ طه : 70 ] وقوله : ﴿ وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ﴾ [ الليل : 13 ] .
2- زيادة حرف لأجلها كما في قوله - تعالى - : ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ [ الأحزاب : 10 ] , ﴿ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ﴾ [ الأحزاب : 66 ] , ﴿ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾ [ الأحزاب : 67 ] , ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴾ [ القارعة : 10 ] .
3- حذف ياء العلة مثل قوله - تعالى - : ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ [ الفجر : 4 ] وقوله : ﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴾ [ الفجر : 9 ] .
4- صرف الممنوع من الصرف كما في قوله - تعالى - : ﴿ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ﴾ [ الإنسان : 15 ] .
5- حذف كاف الضمير كما في قوله - تعالى - : ﴿ وَالضُّحَى . وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى . مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى .. أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى . وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى . وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ [ الضحى : 1-8 ] .
6- إفراد ما أصله الجمع كقوله - تعالى - : ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ﴾ [ القمر : 54 ] وعكسه جمع ما أصله الإفراد كقوله - تعالى - : ﴿ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴾ [ إبراهيم : 31 ] .
7- العدول عن صيغة الماضي إلى الاستقبال كقوله - تعالى - : ﴿ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [ البقرة : 87 ] .
ويجدر بنا التنبيه على أن جميع فواصل القرآن لم تقتصر على مراعاة حسن النظم فقط , وإنما راعت مع ذلك جانب المعنى فحققت بذلك إيقاعها الفريد وبلاغتها العليا . وعلى سبيل المثال :
أ- حذف كاف الضمير في سورة (( الضحى )) في (( قلى )) , (( فآوى )) , (( فهدى )) , (( فأغنى )) لم يراع الفاصلة وحدها وإنما حقق حكمة بلاغية . فقد حذفت من (( قلى )) لتجنب خطابه تعالى رسوله المصطفى في موقف الإيناس بصريح القول : وما قلاك ؛ لما في القلى من حس الطرد والإبعاد وشدة البغض .. أما التوديع فلا شيء فيه من ذلك , بل لعل الحس اللغوي فيه يؤذن بأنه لا يكون وداع إلا بين الأحباب كما لا يكون توديع إلا مع رجاء العودة وأمل اللقاء .
ب- التقديم والتأخير في قوله - تعالى - : ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى . وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ﴾ [ الليل : 12-13 ] ليس لمراعاة الفاصلة وحدها , ولكن لمراعاة المعنى كذلك ؛ حيث جاء الكلام في سياق البشرى والوعيد إذ الآخرة خير وأبقى وعذابها أكبر وأشد وأخزى , وبهذا الملحظ البياني قدمت الآخرة على الأولى في سياق البشرى للمصطفى بآية الضحى : ﴿ وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾ [ الضحى : 4 ] .
وكذلك قوله - تعالى - : ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ﴾ [ طه : 67 ] فقد حقق التقديم والتأخير مراعاة الفاصلة إلى جانب ما حققه من تشويق بتأخير الفاعل , وتطلع النفس إلى معرفته , فإذا جاء بعد ذلك وقع بموقع .
جـ- تغيير نمط التعبير كما في قوله - تعالى - : ﴿ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ﴾ [ طه : 65 ] حيث لم يقل - كما هو متوقع - (( وإما أن نلقي )) . فتغيير النمط لم يحقق مراعاة النغم الموسيقي فحسب , ولكنه يكشف عن رغبة القرآن في تصوير نفسية هؤلاء السحرة وأنهم لم يكونوا يوم تحدوا موسى بسحرهم خائفين أو شاكين في نجاحهم , وإنما كان الأمل يملأ قلوبهم في نصر مؤزر عاجل .
0 التعليقات:
إرسال تعليق