المفردة القرآنية
لا تقف أسرار التعبير القرآني عند الأصوات والحروف بل تمتد لتشمل المفردات والكلمات . وأنت تضع اللفظة القرآنية في تضاعيف الكلام أو تقذف بها ما بين شعر فتأخذها الأسماع وتتشوف إليها النفوس ويرى وجه رونقها باديًا غامرًا سائر ما تقرن به كالدرة التي ترى في سلك من خرز وكالياقوتة في واسطة العقد .
وللمفردة القرآنية خصائص كثيرة نذكر منها :
1- تلاؤم نسيجها الصوتي وجمال وقعها في السمع وخلوها من التنافر .
2- استغلالها الجرس الموسيقي للكلمة وما تحويه من ظلال للمعاني في إثراء معنى الكلمة والإيحاء بمضمونها قبل أن يوحي مدلولها اللغوي به . ومن أمثلة ذلك :
أ- قوله - تعالى - : ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ . وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾ [ التكوير : 17-18 ] فالمتأمل في كلمتي (( عسعس )) و (( تنفس )) يشم رائحة المعنى قوية دون حاجة للرجوع إلى معجم .
ب- قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ﴾ [ التوبة : 38 ] فقد اشتمل أداء فني قام به اللفظ (( اثاقلتم )) بكل ما يتكون من حروف , وبصورة ترتيب هذه الحروف وحركة التشديد على الحرف اللثوي ( الثاء ) والمد بعده ثم مجيء القاف الذي هو أحد حروف القلقلة ثم التاء المهموسة والميم التي تنطبق عليها الشفتان ويخرج صوتها من الأنف .. هذا بالإضافة إلى ما يشعر به البطء في نطق الكلمة ذاتها من حركة بطيئة موجودة من المتثاقل .
جـ- قوله - تعالى - : ﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ﴾ [ الطور : 13 ] حيث تصور (( يدعون .. دعًّا )) مدلولها بجرسها وظلها جميعًا . والدعُّ هو الدفع في الظهر بعنف , وهو في كثير من الأحيان يجعل المدفوع يخرج صوتًا غير إرادي فيه عين ساكنة يكون في جرسه أقرب ما يكون إلى جرس الدعّ .
د- قوله - تعالى - : ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ . تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ﴾ [ القمر : 19-20 ] فكلمة منقعر تدل على أن النخيل قد انقلعت أصولها من باطن الأرض ولم تعد إلا عمدانًا قائمة على سطحها فكأنها قلعت من قعرها .
3- اعتدالها في التركيب والوضع حتى جاءت في معظمها من أعدل التراكيب وهو الثلاثي الذي يبدأ بحرف وينتهي بحرف ويتخذ من الحرف الثالث وُصْلة بين الحرفين . ويقل كثيرًا في القرآن الرباعي حيث لا يكاد يبلغ بضع عشرات من الكلمات ويخلو تمامًا من الخماسي إلا ما كان من لفظ عرِّب .
4- خلوها من اللفظ الغريب المستنكر أو الوحشي المستكره مما جعلها قريبة من الأفهام يبادر معناها لفظها إلى القلب ويسابق المغزى منها عبارتها إلى النفس . وحين ترد في القرآن كلمة غريبة أو لفظة شديدة فإنها تكون مطلوبة في محلها محمودة لوقوعها موقع الحاجة في وصف ما يلائمها كقوله - تعالى - في وصف القيامة ﴿ يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [ الإنسان : 10 ] فهي هنا محمودة في موقعها مطلوبة في سياقها لتبعث في النفس إيحاءات ممتزجة بالخوف والقلق والاضطراب . وفي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه وهي كلمة (( ضيزى )) في قوله - تعالى - : ﴿ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ [ النجم : 22 ] ( أي جائرة ظالمة ) . ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه . ولو فتشت في مفردات اللغة عن كلمة تحل محلها ما وجدت . فإن السورة التي فيها الكلمة وهي سورة النجم مفصلة كلها على الألف ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى .. ﴾ [ النجم : 1-3 ] فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل ثم هي في معرض الإنكار على العرب إذ وردت في ذكر الأصنام وفي معرض الرد على المشركين الذين جعلوا الملائكة والأصنام بنات لله فقال - تعالى - : ﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى . تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ [ النجم : 21-22 ] فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها .
5- دقتها في الاستعمال حتى تبدو بطريقة استعمالها وبدقة دلالتها كأنها فوق اللغة فإن أحدًا من البلغاء لا تمتنع عليه مثل هذه الألفاظ إذا أرادها , ولكن لا تقع له مثل ألفاظ القرآن في مواقعها ؛ لأنها في القرآن تظهر في تركيب ممتنع وتخرج من لغة الاستعمال إلى لغة الفهم , وتكوّن بتركيبها المعجز طبقة خاصة داخل طبقات اللغة . ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [ البقرة : 184 ] فليست الإطاقة هي الاستطاعة , وإنما هي بذل أقصى الجهد والوصول إلى نهاية الاحتمال فحين جاوز احتمال الصوم الطاقة إلى ما لا يطاق سقط التكليف . وبهذا التفسير للإطاقة تنتفي الحاجة إلى تقدير حرف نفي محذوف كما قال بعض المفسرين الذين ساووا - خطأً - بين معنى الإطاقة ومعنى الاستطاعة .
كما تتمثل هذه الدقة أظهر ما تتمثل في لحظ الفروق الدقيقة بين الصفات واختيار الصفة الملائمة حتى تبدو كأنها الاختيار الوحيد من جملة اختيارات , كما في الأمثلة الآتية :
أ- قال تعالى : ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال : 28 ] بعد قوله تعالى : ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [الأنفال : 28 ] فقد قصد هنا بالتنويه بعظمة الأجر التعويض عن ترك الانشغال بالأموال والأولاد . ولهذا فضّل القرآن كلمة (( عظيم )) على (( كبير )) . والفرق بينهما أن العظيم نقيض الحقير , والكبير نقيض الصغير فكأن الصغير فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير .
ب- وكذلك قوله تعالى : ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [ البقرة : 176 ] فقد يتراءى أن وصف الشقاق وهو الخلاف بالقوة أولى من وصفه بالبعد , ولكن التأمل يدل على أن المراد هنا وصف خلافهم بأنه خلاف تتباعد فيه وجهات النظر إلى درجة يعسر فيها الالتقاء . ولا يدل على ذلك لفظ غير هذا اللفظ الذي اختاره القرآن .
جـ- ومثل هذا يقال في كلمة (( عريض )) في قوله تعالى : ﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ [ فصلت : 51 ] بدلًا من (( واسع )) أو (( كثير )) وكذلك كلمة (( غليظ )) في قوله تعالى : ﴿ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [ النساء : 21 ] كما تبدو الدقة في براعة التشبيه والتمثيل فبدلًا من أن يقول تعالى : (( ولا يظلمون شيئًا )) أو (( ما يملكون شيئًا )) قال : ﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [ النساء : 49 , والإسراء : 71 ] ( والفتيل ما كان في شق النواة أو ما يفتل بين الأصبعين من الوسخ ) كما قال : ﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [ النساء : 124 ] ( والنقير النكتة في ظهر النواة ) وقال أيضًا : ﴿ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ﴾ [ فاطر : 13] ( والقطمير القشرة الرقيقة على النواة ) وهي أشياء يضرب بها كلها المثل في التفاهة والحقارة والقلة .
ومن الدقة كذلك اختيار الكلمة التي توحي بالمعنى فيما لا يحسن التصريح به . وهو ما يعرف باسم (( التلطف في التعبير )) وأوضح مثال لذلك ما أطلقه القرآن من ألفاظ كثيرة للتعبير عن العلاقة الجنسية بين الزوج والزوجة وقد كان في كل مرة يختار اللفظ الذي يسهم في أداء المعنى مصحوبًا بقوة جرسه ونوع صيغته وما يملكه من إيحاء :
* ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [ البقرة : 187 ]
* ﴿ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾ [ النساء : 21 ]
* ﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ﴾ [ الأعراف : 189 ]
* ﴿ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ [ البقرة : 223 ]
* ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ [ البقرة : 237 ]
* ﴿ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ [ النساء : 24 ]
* ﴿ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [ البقرة : 187 ]
* ﴿ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ﴾ [ النساء : 43 , المائدة : 6 ]
* ﴿ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ [ النساء : 23 ]
6- تلاؤم حركاتها في الوضع والتركيب وجريها مجرى حروفها في أمر الفصاحة وتهيئة بعضها لبعض ومساندة بعضها بعضًا حتى إن الحركة ربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيًا كان أو ربما كانت غير مستساغة في الكلام , فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنًا عجيبًا , ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد مهدت لها حتى جاءت متمكنة من موضعها , وكانت في هذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة . ومن ذلك لفظة (( النُّذُر )) جمع نذير . فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معًا , فضلًا عن صعوبة الراء ونبوّه في اللسان , وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام . ولكن هذه اللفظة جاءت في القرآن على العكس , وانتفى عنها نبوّها في قوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ﴾ [ القمر : 36 ] . تأمل موضع القلقلة في دال (( لقد )) وفي الطاء من (( بطشتنا )) . وتأمل الفتحات المتوالية بعد الشين إلى ما بعد الراء , مع الفصل بالمد كأنه تثقيل لخفة تتابع الفتحات تمهيدًا للانتقال إلى ثقل الضمة التي أصابت موضعها , وجاءت مساندة لراء (( النذر )) .
7- ملاحظة الفروق الدلالية الطفيفة بين كلمات يستخدمها ابن اللغة العادي على أنها مترادفة أو متطابقة ومن أمثلة ذلك :
أ- كلمتا الغيث والمطر : تتبع الاستعمال القرآني يدل على وجود صفة مميزة تفرق بينهما بعد اشتراكهما في أصل المعنى , وقد أوضح الثعالبي أن المطر إذا جاء عقيب الجَدب وانقطاع المطر أو عند الحاجة إليه فهو الغيث . وقال القرطبي : (( والغيث : المطر , وسمي غيثًا لأنه يغيث الخلق )) وقال الماوردي : (( والغيث ما كان نافعاً في وقته ، والمطر قد يكون ضاراً ونافعاً في وقته وغير وقته )) . ولا شك أن الاستعمال القرآني يؤيد هذه التفرقة الدقيقة في المعنى .
2 التعليقات:
رفع الله قدرك ، ونفع بكم
احسنت بارك الله فيك
ممكن اسم المصدر
إرسال تعليق