حجة النبي صلى الله عليه وسلم
المكان : جامع الفرقان
الزمان : 3/12/1433هـ الموافق 19/10/2012م
الخطبة الأولى
هاجر رسول الله صلى الله عليه إلى المدينة ولم تزل مكة حاضرة في ذهنه , حاضرة في شعوره , حاضرة في تفكيره , يشده الحنين إلى أول بيت وضع للناس , كيف السبيل إلى مكة ؟ متى نطوف ونسعى بين الصفا والمروة ؟ متى نرمي الجمار مكبرين ؟ متى ندخل مكة محلقين ومقصرين ؟
مكة أيتها الحبيبة ! لم تزل الجبال والرمال حزينة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما أطيبَكِ من بلد وأحبَّك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرك » .
وتمر الأيام , ويعود صلى الله عليه وسلم إلى مكة مظفرًا ؛ عاد يكبكب الأصنام على وجوهها , ويهوي بعصاه على أنوفها , ويتلو ( جاء الحق وزهق الباطل ؛ إن الباطل كان زهوقًا ) , وبعدما أرسى قواعد الإيمان في مكة , عاد إلى المدينة ؛ فالدم الدم والهدم الهدم , ولو سلك الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلك شعب الأنصار ؛ الناس دثار والأنصار شعار .
عاد إلى طيبة , وجاء موسم الحج في السنة التاسعة فأرسل أبا بكر رضي الله عنه يحج بالناس وينهي آثار الجاهلية ؛ فلا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ..
ودخلت السنة العاشرة فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حاج , فهوت إليه أرواح المؤمنين , ﴿ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ , كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم , وسالت الوديان والشعاب بالناس , بحرٌ من الحجاج والمعتمرين يهدون الأرض هدًا , ترددت صرخاتهم في الجبال , ودوّت صيحاتهم في التلال : لبيك اللهم لبيك , لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ..
إلهنا ما أَعدلكْ * مليك كلِّ من ملكْ
لبيَّك قد لبيتُ لك * لبيّك إنَّ الحمدَ لك
والملكَ لا شريك لك * والليلَ لما أن حلكَ
والسابحاتِ في الفلك *على مجاري المُنْسَلَك
ما خاب عَبدٌ سألك * أنت له حيث سلك
لولاك يا ربِّ هلك * كلُّ نبيّ وملك
وكلُّ من أهلّ لك * سبّح أو لبَّى فلَك
جاءوا من كل فج عميق , يلتمسون الاقتداء بسيد الخلق , يفعلون مثلما يفعل , ويقولون كما يقول , إنه الاتباع في أبهى صوره وأجمل أشكاله .
خرج رسول الله صلى لله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة , فلما وصل ذا الحليفة صلى ركعتي الإحرام في المسجد , ثم ركب ناقته القصواء حتى إذا استوت به على البيداء أهل بالحج , والناس مد البصر بين يديه من راكب وماش , وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ..
فأهلَّ بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك , لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .
الكلمة التي رفضت قريش أن تقولها وأنفقت أموالها وخسرت رجالها لتصد عنها ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ..
مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى أتى البيت فاستلم الحجر ثم مضى عن يمينه فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ ورفع صوته يسمع الناس , فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين , ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه , ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ : ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ أَبدأُ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وحمده وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده , ثم دعا بين ذلك , ثم سعى بين الصفا والمروة ,
فلما كان يوم التروية توجّه إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس فسار حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس وقال : « إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا , ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضوع , ودماء الجاهلية موضوعة , وإن أول دم أضع من دمائنا دم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل - , وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله , فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك وأديت ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد , اللهم اشهد »
يا لها من خطبة عظيمة ! وضعت القواعد الأساسية والمعالم البارزة للدين الإسلامي العظيم , فأكدت على عصمة الدماء والأموال والأعراض , وأغلقت ملفات الجاهلية , وفتحت باب المسامحة , وحذرت من الربا , وأكدت على البداءة بالنفس , وقررت حقوق المرأة , ونهت عن الظلم الاجتماعي ورسمت ضوابط المعاملات الأسرية , وأوجبت
التمسك بالكتاب والسنة ..
الله أكبر , الله أكبر , الله أكبر , لا إله إلا الله , الله أكبر , الله أكبر , ولله الحمد , يا لها من خطبة عظيمة أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
أيها المسلمون , العيد على الأبواب , ومن السنن المؤكدة في العيد ذبح الأضاحي تقربًا إلى الله , وقد واظب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأضحية قال ابن عمر : « أقام رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- بالمدينَةِ عَشْرَ سِنينَ يُضَحَّي » والحكمة من الأضحية التوسعة على الفقراء وإدخال السرور على المساكين
لينعموا بفرحة العيد ويشاركوا إخوانهم بهجته , وإنها للفتة كريمة من الأغنياء نحو الفقراء في هذا اليوم العظيم ؛ يؤدون بها شكر النعمة ويساهمون بها في تخفيف معاناة المساكين .
واعلموا عباد الله , أنه يستحب لمن أراد التضحية أن يمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي , وتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته , وتجزئ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة اشتركوا فيها , وأربع لا تجزئ في الأضاحي : العوراء البين عورها , والمريضة البين مرضها , والعرجاء البين عرجها , والهزيلة التي ذهب مخها من الهزال , ومن ذبح بعد الصلاة فقد أصاب النسك ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله , فضحوا تقبل الله ضحاياكم , وكلوا منها وأطعموا البائس الفقير .
أيها المسلمون , كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو إلى المصلى فيصلي بالناس وأمر الناس بالخروج إلى المصلى قالت أم عطية رضي الله عنها : « أَمَرنا النبي صلى الله عليه وسلم أَن نَخْرُجَ ، ونُخْرِجَ الحُيَّضَ والعواتقَ ذواتِ الخدور فأما الحُيَّضُ : فيشْهدْنَ جماعةَ المسلمين ودعوتَهم ، ويعتزْلنَ مصلاهم » .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى العيد من طريق ويرجع من طريق آخر , وكان لا يأكل في الأضحى شيئًا حتى يصلي فإذا عاد من الصلاة أكل من أضحيته .
أيها المسلمون , يستحب للرجل أن يوسع على أهل بيته في أيام العيد ؛ فإن أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى , ولا بأس باللهو المباح , فإنه يوم سرور وفسحة , وأكثروا - عباد الله - في هذه الأيام من التكبير والذكر والعمل الصالح ؛ فإنكم في أفضل أيام الدنيا ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق