الاستجابة لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم -
[20/5/1435هـالموافق
21/3/2014هـ ]
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، يقول الله - جل وعلا
-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
نبقى لحظات في ظلال هاتين الآيتين الكريمتين، نقتبس من
نورها، ونستضيء بسناها في حياتنا، ونتدارس أحوال الجيل الأول وأحوالنا معها..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾، ففي طاعة
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الحياة الطيبة، فمن لم تحصل منه الاستجابة لله
وللرسول صلى الله عليه وسلم لم يذق طعم الحياة النافعة، ومن استجاب ذاق طعم الحياة
الطيبة، والذين استجابوا لله وللرسول صلى الله عليه وسلم هم الأحياء وإن ماتوا، والذين
لم يستجيبوا لله وللرسول هم الأموات وإن عاشوا..
الناس صنفان: موتى في حياتهمُ * وآخرون ببطن
الأرض أحياءُ
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمُهم * وعاش قومٌ وهم
في الناس أمواتُ
وأكمل الناس حياةً أكملهم استجابة لله وللرسول صلى الله
عليه وسلم، فمن فاته جزء من هذه الاستجابة فاته جزء من الحياة، وكان فيه من الحياة
بحسب ما استجاب؛ لأن الإسلام يحي القلوب حياة طيبة، وكمال الحياة إنما يكون في الجنة،
والرسول صلى الله عليه وسلم داعٍ إلى الإيمان، وإلى الجنة، فهو داعٍ إلى الحياة الكاملة
في الدنيا والآخرة.
فالحياة الطيبة، والسكينة، والطمأنينة، والعزة الكاملة،
إنما يلمسها من استجاب لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، واستقام على ذلك قولًا
وعملًا, وأما من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام واشتغل عنهما
بغيرهما فإنه لا يزال في الضيق والشقاء, والمعيشة الضَّنْك, وإن ملك الدنيا
بأسرها, قال - جل وعلا -: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا, وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾.
وقال - جل وعلا -: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ *
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾.
فالمؤمن في نعيم؛ في دنياه، وقبره، وآخرته, وإن أصابه في
الدنيا ما أصابه من أنواع المصائب كالفقر والمرض ونحوها.
والفاجر في جحيم؛ في دنياه وقبره وآخرته، وإن أدرك ما أدرك
من نعيم الدنيا, وما ذاك إلا لأن النعيم في الحقيقة هو نعيم القلب وراحته
وطمأنينته. فالمؤمن - بإيمانِه بالله واعتمادِه عليه واستغنائِه به وقيامِه بحقه,
وتصديقِه بوعده - مطمئن القلب، منشرح الصدر, مرتاح الضمير. والفاجر - لمرض قلبِه
وجهلِه وشكِّه وإعراضِه عن الله, وتشعب قلبِه في مطالب الدنيا وشهواتِها - في عذاب
وقلق وتعب دائم, ولكن سكرة الهوى والشهوات تعمي العقول عن التفكير في ذلك والإحساس
به.
وأكمل الناس استجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، وأوفر
الناس حظًا من الحياة الطيبة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ضربوا لنا
أروع الأمثال في الاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم:
- ففي الصحيحين أن أبا بكر الصديق -
رضي الله عنه - كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره، فلما خاض في الإفك،
قال أبو بكر: والله لا أنفق على مسطح شيئًا
أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله
﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا
أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾. قال أبو
بكر: بلى والله، إني أحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق
عليه وقال والله لا أنزعها منه أبدًا!
فهذا مثال في الاستجابة لله وللرسول في الصفح عن المذنبين.
- وفي صحيح البخاري عن ابن
عباس- رضي الله عنهما - قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحُر
بن قيس، وكان من النفر الذين يُدنيهم عمر، وكان القراء أصحابَ مجالس عمر ومشاورتِه
كهولًا كانوا أو شبابًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير،
فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحُر لعيينة، فأذن
له عمر، فلما دخل عليه، قال: هِيْ يا ابن الخطاب! فو الله ما تعطينا الجزل، ولا
تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحُر: يا أمير المؤمنين، إن
الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ وإن هذا من الجاهلين، والله ما
جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقّافًا عند كتاب الله!
فهذا مثال في الاستجابة لله وللرسول في كظم الغيظ والعفو عن
الناس.
- وفي صحيح البخاري أن عثمان -
رضي الله عنه - حين حوصر أشرف عليهم، وقال: أنشدكم بالله - ولا أنشد إلا أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
« من حفر رومة فله الجنة فحفرتها؟ ألستم تعلمون أنه قال: من جهز جيش العسرة فله
الجنة، فجهزته؟ »،
فهذا مثال في الاستجابة لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم -
في الصدقة.
- وإن تعجبْ فعجبٌ ما
فعله علي بن أبي طالب من الالتزام الحرفي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم!
- ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: « لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ
رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ». قَالَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ: مَا أَحْبَبْتُ الإِمَارَةَ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ - قَالَ - فَتَسَاوَرْتُ
لَهَا رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا ( أي تطاولت لها حرصًا عليها، ورفعت شخصي ليراني
ويتذكرني )- قَالَ - فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَلِىَّ بْنَ أَبِى
طَالِبٍ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا وَقَالَ: « امْشِ، وَلاَ تَلْتَفِتْ، حَتَّى يَفْتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكَ ». قَالَ: فَسَارَ عَلِىٌّ شَيْئًا، ثُمَّ وَقَفَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ،
فَصَرَخَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ قَالَ: « قَاتِلْهُمْ
حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ
بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ » فانظر إلى حرص علي بن أبي طالب رضي الله
عنه على الالتزام بقول النبي صلى الله عليه وسلم « لا تلتفت »!
- وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله
عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ
شَيءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ ثَلاَثَ لَيَالٍ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ
مَكْتُوبَةٌ ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم- قَالَ ذَلِكَ إِلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي!
فهذا مثال في الاستجابة لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم -
في توثيق الحقوق وكتابة الديون.
- وفي صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ
فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: « يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ
مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ ». فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ. قَالَ: لاَ وَاللَّهِ،
لاَ آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -!
فهذه نماذج مشرقة في الاستجابة الكاملة لله وللرسول - صلى
الله عليه وسلم -، وفيها ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ،
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَأَنَّهُ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْكُمْ خَاصَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله
العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
أيها المسلمون، الأمثلة على استجابة
الصحابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، ومنها الاستجابة لله وللرسول - صلى
الله عليه وسلم - في الكف عن الدماء والبعد عن الفتن.
- في صحيح مسلم عَنْ أُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَرِيَّةٍ، فَأَدْرَكْتُ
رَجُلًا، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي
مِنْ ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِي- صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: « أَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَقَتَلْتَهُ؟ ». قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا
مِنَ السِّلاَحِ. قَالَ: « أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ
أَقَالَهَا أَمْ لاَ ». فَمَازَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَىَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ
أَنِّى أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ. فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ
مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ! يَعْنِى أُسَامَةَ، فقَالَ رَجُلٌ:
أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ،
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾. فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا
حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا
حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ.
فهذه استجابة حِب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذه والحسن فيقول: « اللهم إني
أحبهما فأحبهما »، وقال فيه - عليه الصلاة والسلام -: « من كان يحب
الله ورسوله فليحب أسامة ».
قال الذهبي - رحمه الله -: « انتفع
أسامة من يوم النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ يقول له: " كيف بلا إله إلا الله
يا أسامة؟ " فكفّ يده، ولزم منزله، فأحسن ».
أيها المسلمون،
هذا حال أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فما هو حالنا؟ أما آن لنا أن نقول:
سمعنا وأطعنا، غفرانك، ربنا وإليك المصير؟ أما آن لنا أن نرجع إلى الله ونتوب من
الذنوب؟ أما آن لنا أن تخشع قلوبنا لذكر الله وما نزل من الحق؟ أما آن لنا أن نتقيَ
الله ونذرَ ما بقي من الربا؟ أما آن لنا أن نتكاتف في نشر الفضيلة وصيانة المجتمع؟
اللهم ردنا إليك ردًّا جميلًا، أصلح أحوالنا، وأحوال
المسلمين، بدّل حالنا إلى أحسن حال، اكفنا شر مصائب الدنيا والدين.
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..
0 التعليقات:
إرسال تعليق