تعديل

الشيخ محمد سعيدباصالح

الجمعة، 9 يناير 2015

خطبة ( هادم البيوت - الطلاق )



هادم البيوت ( الطلاق )
[ 18/3/1436هـالموافق 9/1/2015م ]
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، يحكي واقع كثير من الناس اليوم، صورًا شتى من اللامبالاة، بقيم الألفاظ، ودلالات الكلام وثمراته، ترى الكلمة تخرج من فم المرء، لا يلقي لها بالًا، ربما أهوت به في مسالك الضياع والرذيلة، استحقر بعضهم حجم الكلمات، واستنكف عن معانيها، وما علم أولئك،
أن النارَ بالعودَينِ تُذْكَى ** وأن الحربَ مَبدؤُها كلامُ
أيها الناس، أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تكون مِعْولًا صُلبًا، يهدم به صرح أسر وبيوتات؟ أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تنقل صاحبها من سعادة وهناء، إلى محنة وشقاء؟ أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تحرك أفرادًا وجماعاتٍ، وتُنشِئُ تزلّفًا وشفاعاتٍ، لرَأْبِ ما صدّعت وجمعِ ما فرّقت؟ أتدرون أي كلمة هذه؟
إنها كلمة أبكت عيونًا، وأجهشت قلوبًا، وروّعت أفئدة، إنها كلمة صغيرة الحجم، لكنها جليلة الخَطْب، إنها كلمة تُرعَد الفرائصُ بوقعِها، وتقلب الفرح ترَحًا والبسمةَ غُصّة، إنها كلمة الطلاق، إنها كلمة الطلاق، وما أدراك ما الطلاق؟! كلمة الوَداع والفراق، والنزاع والشقاق، فللّه كم هدمت من بيوت للمسلمين! وكم قطّعت من أواصرَ للأرحام والمحبين! يا لها من ساعة رهيبة، ولحظةٍ أسيفة، يوم تسمع المرأةُ طلاقَها، فتُكفكِفُ دموعَها، وتُودِّع زوجها! يا لها من لحظةٍ تجف فيها المآقي، حين تقف المرأة على باب دارها، لتلقي النظراتِ الأخيرة، نظراتِ الوَداع على عُشِّ الزوجية، المليء بالأيام والذكريات! يا لها من لحظةٍ عصيبة، حين تقتلعُ السعادةُ أطنابَها، من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك!
عبادَ الله، العِشرة الزوجية ضرب خاص من المحبة في النفس، ليس له في أنواعه ضَريب، فهو الذي يسكن به الزوجان، وهو الذي يلتقي به بشران، فيكون كل منهما متمّمًا لوجود الآخر، ينتجان بالتقائهما بشرًا مثلهما ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾.
إن اختلال العشرة بين الزوجين، يُذْكِي نارَ الفرقة، وكثرةُ الخصام تُضْرِمُ أُوارها، ولو أحب الأزواج أنفسَهم حبًّا صادقًا، وسكن بعضهم إلى بعض، لوَدَّ كل منها الآخر، ووَدَّ لأجله أهلَه وعشيرتَه؛ فسعادة الزوجين سعادة للأسرة وسعادة الأسرة سعادة للعشيرة وسعادة العشيرة سعادة للأمة، ومن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لأمته، قال رسول الله : " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ".
عباد الله، لقد قال المصطفى في الحديث المشهور: " فاظفر بذات الدين تربت يداك ".
هذه هي الزوجة التي يحث الشارع على تحصيلها والرضا بها، ويدعو على من أراد غيرها، وزهد فيها ورغب عنها. ومن المعلوم بداهة؛ أنه لا يرغب في الظفر بذات الدين، إلا من كان قلبه معلّقًا بالدين، وكانت نفسه من النفوس الزكية، ومن هذه حاله، فلا غَروَ أن يُرزَقَ المودة بينه وبين زوجه؛ لأنها من ثمرات المشاكلة في السجايا والصفات الفاضلة، وعلى العكس من ذلك، المشاكلة في الصفات الرديئة، والسجايا الدنيئة، فهي لا تثمر محبة، ولا تورث تودّدًا.
قال رسول الله : " خير متاع الدنيا المرأة الصالحة ".
إنه متى كان الدين بين كل زوج وزوجته، فمهما اختلفا وتدابرا، وتعقّدت أنفسهما، فإن كل عقدة من العقد لا تجيء إلا ومعها طريقة حلِّها ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلَبَه، وهو اليسر والمساهلة، والرحمة والمغفرة، وهو العهد والوفاء، وهو اتساع الذات، وارتفاعها فوق ما تكون به منحطة أو وضيعة.
أيها الناس، الطلاق كلمة، لا ينازع أحد في جدواها، وحاجة الزوجين إليها، حينما يتعذر العيش تحت ظل واحد، وإذا بلغ النفور بينهما مبلغًا، يصعب معه التودد، فالواجب أن يتفرقا بالمعروف والإحسان، كما اجتمعا بهذا القصد ﴿ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ واسِعًا حَكِيمًا ﴾.
إن الله - عز وجل - لم يخلق الزوجين بطباع واحدة، والزوجان اللذان يظنان، أنهما مخلوق واحد، يعيشان في أوهام؛ إذ كيف يريد منها زوجها أن تفكر برأسه، وكيف تريد هي منه، أن يحس بقلبها ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾.
إن النسيم لا يهُبُّ عليلًا داخل البيت على الدوام، فقد يتعكّر الجو، وقد تثور الزوابع، وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوعُ وهمٍ، ومن العقل توطين النفس على قبول بعض المضايقات، وترك التعليق المرير عليها ﴿ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ وقال رسول الله: " لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر ".
ومن يتتبعْ جاهدًا كلَّ عثرةٍ ** يجدْها ولا يسلمْ له الدهرَ صاحبُ
بَيْدَ أن بيوتاتٍ كثيرة فقدت رُوحَ التدين، فهي تتنفس في جو من الشراسة والنكد، واكتنفتها أزَمات عقلية وخلقية واجتماعية، فقد تطلّق المرأة اليوم، في أكلة أو شربة أو زيارة، علّق الرجل بها طلاقَها إن هي فعلتْها، فيخبط هؤلاء خبط العشواء، ويتصرفون تصرف الحمقى؛ فيقعون في الإثم والحيف.
أيها الناس، إن قوامة الرجل في بيته لا تعني منحَه حقَّ الاستبداد والقهر، فعقد الزوجية، ليس عقد استرقاق، ولا عقد ارتفاق لجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأجل.
وكل من الزوجين بشر تام، له عقل يتفكر به، وقلب يحب به ويكره، فوجب الحقُّ للمرأة حتى مع قوامة الرجل ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ كما أن قوامة الرجل، لا تعني استغناءه عن زوجه، فالله - عز وجل - يقول: ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾.
عبادَ الله، لقد كثر الطلاق اليوم، لما صار المطلق أحد رجلين: إما رجل أعمل سلطته وأهمل عاطفته؛ فكان في بيته سيدًا، ولكنه لم يذق طعم المحبة والسعادة، ولا عرف الصفاء والهناء. وإما رجل تبع عاطفته فأطاعها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبدًا رقيقًا.
لقد كثر الطلاق اليوم لما كثر الحسَدةُ والواشون، فنكّسوا الطباع، وعكسوا الأوضاع، وصيرّوا أسباب المودة والالتئام، عللًا للتباغض والانقسام. ولربما كان لأهل الزوجين مواقف ظاهرة، بدت سببًا مباشرًا في كثير من الخلافات، فقد يتدخل الأب، وقد تتدخل الأم أو الأخ، أو الأخت، فيحار الزوج من يقدم؟ والديه، الذين عرفاه وليدًا، وربياه صغيرًا؟ أم زَوْجَهُ التي هجرت أهلها، وفارقت عُشَّها من أجله؟ إن هذه لمُرتَقَيَاتٌ صعبة، أهونها أصعب الصعاب، وأحلاها أمرّ من المر.
إن مثل هذه التدخلات في الحياة الزوجية، لهي مَكْمَن الخطر لدى كثير من الأسر، فما بال أولئك يهجمون على البيوت؟ فيأتونها من ظهورها، ويمزّقون سِتارها، ويهتكون حجابَها، وينتزعون الجرائد من أكنافها، والفرائد من أصدافها، ويوقعون العداوة والبغضاء بين الأزواج. ماذا يكون أثر هؤلاء في البيوت؟! إنه لا يغيب عن فهم عاقل، أن شرَّهم مستطير، وأن ما يفعلونه فتنة في الأرض وفساد كبير.
عبادَ الله، إن العلاقات الزوجية، عميقة الجذور، بعيدة الآماد، فرحم الله رجلَا محمود السيرة، طيب السريرة، سهلًا رفيقًا، ليّنًا رؤوفًا، رحيمًا بأهله، لا يُكلِّف زوجتَه من الأمر شططًا، وبارك الله في امرأة لا تطلب من زوجها غلطًا، ولا تُحْدِثُ عنده لغطًا، قال رسول الله: " خيركم خيركم لأهله "، وقال: " إذا صلت المرأةُ خمسَها، وحصّنت فرجَها، وأطاعت بعلَها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت ".
وبهذا كله، يفهَم الرجلُ أن أفضلَ ما يستصحبه في حياته، ويستعين به على واجباته، الزوجةُ اللطيفةُ العشرة، القويمةُ الخُلُق، وهي التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالِها بما يكره، إن هذه الزوجة هي دِعامة البيت السعيد، وركنه العتيد ﴾ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾..
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
أيها الناس، إن أحدَنا لتمر عليه فترات، لا يرضى فيها عن نفسه، ولكنه يتحملّها، يتعلّل بما يحضره من المعاذير، وإذا كان الأمر كذلك، فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين، يلتمس كل منهما لقرينه المعاذير فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات؛ ولابد من غض الطرْف عن الهفوَات والزلّات، حتى تستقيم العشرة،
مَن ذا الذي ما ساءَ قطْ ** ومَن لهُ الحسنى فقطْ
ولا شيء يخفف أثقال الحياة، وأوزار المتاعب، عن كاهل الزوجين، كمثل أحدهما للآخر، ولا شيء يعزي الإنسان عن مصابه في نفسه وغيره مثل المرأة للرجل، والرجل للمرأة؛ فيشعر المصاب منهما بأن له نفسًا أخرى، تُمِدُّهُ بالقوة، وتشاطره مصيبتَه.
فهذه أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - زوج النبي، كانت له في المحنة قلبًا عظيمًا، وكانت لنفسه كقول: ( نعم )، فكأنما لم تنطق قط ( لا )، إلا في الشهادتين، وما زالت - رضي الله عنها -، تعطيه من معاني التأييد والتهوين، كأنما تلد له المسراتِ من عواطفها، كما تلد الذريةَ من أحشائها؛ بمالها تواسيه، وبكلامها تسليه ( كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتَحمِل الكَلّ، وتَقرِي الضيف، وتَكسِبُ المعدوم، وتعين على نوائب الحق ).
وحدث أنس بن مالك ، عن أمه أم سليم، بنت ملحان الأنصارية - رضي الله عنهما - قال: مرض أخ لي من أبي طلحة، يدعى أبا عمير، فبينما أبو طلحة في المسجد، مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره، وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه، فرجع من المسجد، وقد تطيّبت له وتصنّعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان، وقدمت له عَشاءه، فتعشّى هو وأصحابه، ثم أتمَّا ليلتهما على أتمّ وأوفقِ ما يكون، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عاريّة فتمتعوا بها، فلما طلبت إليهم شق عليهم، قال أبو طلحة: ما أنصفوا. قالت: فإن ابنك فلانًا، كان عارية من الله فقبضه إليه، فاسترجع وحَمِد الله وقال: والله لا أدعك تغلبينني على الصبر. حتى إذا أصبح، غدا على رسول الله فلما رآه قال: " بارك الله لكما في ليلتكما ".
الله أكبر! بمثل هذا فلتكن العشرة أيها الأزواج، بمثل هذا فلتكن الحياة الهانئة السعيدة، في النفس والولد والمال.
ثم اعلموا - رحمكم الله - أن لكلا الزوجين حقًا على الآخر؛ فحقٌّ على الزوج أن ينفق عليها، ولا يكلّفَها من الأمر مالا تطيق، وأن يسكنها في بيتٍ يصلُح لمثلِها، وأن يعلّمَها، ويؤدّبَها، ويغارَ عليها، ويصونَها، وألا يتخوّنَها، ولا يلتمسَ عثراتِها، وأن يعاشرَها بالمعروف، قال رسول الله: " استوصوا بالنساء خيرًا ".
وسئل: ما حق امرأةِ أحدنا عليه؟ قال: " تُطعِمُها إذا طَعِمتَ، وتكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تضربْ الوجهَ ولا تُقَبِّحْ، ولا تهجرْ إلا في البيت ".
ومن حق الزوج على زوجته، أن تطيعَه في المعروف، وأن تتابعَه في مسكنه، وألا تصومَ تطوّعًا إلا بإذنه، وألا تأذنَ لأحدٍ في بيتِه إلا بإذنه، وألا تخرجَ بغير إذنه، وأن تَشكُرَ له نعمتَه عليها ولا تكفُرَها، وأن تدبّرَ منزلَه وتهيّئَ أسباب المعيشة به، وأن تحفظَه في دينِه وعرضِه.
هذا وصلوا - رحمكم الله - على خير البرية وأفضل البشرية..


0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More