كُنَيفٌ مُلِئَ علمًا
٢٧|٥|١٤٣٨هـالموافق ٢٤|٢|٢٠١٧م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب/ محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، هذه سيرة أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر الهجرتين، وصلى إلى القبلتين، وشهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايع بيعة الرضوان، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكان من السابقين إلى الإسلام حتى قال: ( لقد رأيتُني سادسَ ستةٍ ما على ظهر الأرض مسلمٌ غيرُنا ).
ذلكم هو أبو عبد الرحمن الهُذلي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
يحكي خبر إسلامه فيقول: ( كنت أرعى غنمًا لعُقبة بن أبي مُعَيط فمرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقال: يا غلام، هل من لبن؟ قلت: نعم، ولكني مؤتمن. قال: فهل من شاة لم يَنْزُ عليها الفَحل؟ فأتيتُه بشاة، فمسح ضرعَها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، فشرب، وسقى أبا بكر. ثم قال للضرع: اقلِصْ. فقلص! ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله، علِّمني من هذا القول. فمسح رأسي وقال: يرحمك الله، فإنك غُلَيِّمٌ مُعَلَّم ).
وكان من ضعفة المسلمين ومساكينهم ومع ذلك تحمل الأذى وأسلم قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ( كُنَّا مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم: اطْرُدْ هَؤُلاَءِ؛ لاَ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا. قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلاَلٌ وَرَجُلاَنِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )).
وكان كثير الاختلاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان في السفر يعتني بفراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وسواكه ونعلَيه وطهورهِ، حتى إنه من كثرة اختلافه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُظَن أنه من أهل بيته، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ( قدمتُ أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينًا ما نرى إلا إن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم ).
وبسبب هذه الملازمة أخذ ابن مسعود الهدْيَ والسَّمتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان يُشبَّه به، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ( إن أشبه الناس هدْيًا وسمْتًا ودلًّا بمحمد صلى الله عليه وسلم عبدُ الله بن مسعود من حين يخرج إلى حين يرجع، فما أدري ما في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابنَ أمِّ عبدٍ من أقربِهم وسيلةً عند الله يوم القيامة ).
ولقد أخذ القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان عالمـًا به، من كبار من يؤخذ عنهم القرآن من الصحابة؛ بل جعله النبي صلى الله عليه وسلم في مقدمة القرّاء.
روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة ).
فقال عبد الله بن عمرو: ( لا أزال أحبه بعدما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ به ).
ويبين ابن مسعود مدى علمه بكتاب الله فيقول رضي الله عنه: ( والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلمَ مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبتُ إليه ).
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب سماع القرآن من ابن مسعود حتى قال له يومًا: ( اقْرَأْ عَليَّ الْقُرْآنَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ! قَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا ) رَفَعْتُ رَأْسِي أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ ).
وقال علقمة: ( جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني جئتك من عند رجل يُملِي المـُـصحفَ عن ظهرِ قلبٍ ففزع عمر وغضب، وقال: ويحك! انظر ما تقول. قال: ما جئتك إلا بالحق. قال: من هو؟ قال: عبدُالله بن مسعود. قال: ما أعلم أحدًا أحقَّ بذلك منه، وسأحدثك عن عبد الله، إنّا سمرنا ليلةً في بيت أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خرجنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بيني وبين أبي بكر، فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجلٌ يقرأ فقام النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إليه. فقلت: يا رسول الله، أعتَمْتَ. فغمزني بيده: اسكت. فقرأ وركع وسجد وجلس يدعو ويستغفر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل تعطه. ثم قال: من سرّه أن يقرأ القرآن رطبًا كما أُنزِل فليقرأ قراءةَ ابنِ أمِّ عبد. فعلمت أنا وصاحبي أنه عبدُ الله، فلما أصبحت غدوت إليه؛ لأبشره فقال: سبقك بها أبو بكر! وما سابقتُه إلى خيرٍ قط إلا سبقني إليه! )
وكان ابن مسعود رضي الله عنه معظّمًا للرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسروق قال: ( حدّثنا عبدُ الله يومًا فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فرَعَد! حتى رعَدَتْ ثيابُه! ثم قال: نحوَ ذا أو شبيهًا بذا ).
وعن عمرو بن ميمون قال: ( كان عبد الله يأتي عليه السنَة لا يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدّثَ ذاتَ يوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث، فَعَلَتْه كآبةٌ، وجعل العرق يتحادَرُ على جبهته! و يقول: نحو هذا أو قريبًا من هذا ).
وقد شهد له أكابر الصحابة بالعلم كعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال زيد بن وهب: ( إني لجالسٌ مع عمر بن الخطاب، إذ جاء ابنُ مسعود، فكاد الجلوسُ يُوارُونه من قِصَرِه، فضحك عمر حين رآه، فجعل عمر يُكلِّمه، ويتهلَّل وجهُه، ويُضاحِكُه، وهو قائم عليه، ثم ولَّى، فأتْبعَه عمرُ بصرَه حتى توارى، فقال: كُنَيفٌ مُلِئَ علمًا! ).
أَي؛ أَنّه وِعاءٌ للعِلْم؛ شبهه بوِعاءِ الرَّاعي الَّذِي يَضَعُ فيه كلَّ ما يَحْتاجُ إليهِ من الآلاتِ، فكذلك قَلْبُ ابنِ مَسْعُودٍ قد جُمِع فيه كُلُّ ما يَحْتاجُ إليه الناسُ من العُلومِ، وتَصْغِيرُه على جِهَةِ المَدْحِ له، وهو تَصْغِيرُ تَعظِيمٍ للكِنْفٍ، وهو وعاء الراعي الذي يحفظ فيه متاعَه.
وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأن موازينه تَثقُل به يوم القيامة رغم أنه كان قصيرًا خفيف اللحم، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابنَ مسعود، فصعِد على شجرة أمره أن يأتيَه منها بشيء، فنظر أصحابُه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعِد الشجرة فضحكوا من حُموشةِ ساقيه - أي دقة ساقيه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تضحكون؟ لرِجلُ عبدِ الله أثقلُ في الميزان يوم القيامة من أُحُد ).
رضي الله عن ابن مسعود وأرضاه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، كان ابن مسعود رضي الله عنه حريصًا على جمع الكلمة، ملتزمًا السمع والطاعة، في عسره ويسره، ومنشطه ومَكرَهِه، بعيدًا عن الفتنة وأهلها مع أنه كان متبوعًا في الدين، إمامًا للناس، له أتباع يأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه.
وكان بينه وبين عثمان رضي الله عنه خلاف في مسائل فبعث إليه عثمان يأمره بالمجيء من الكوفة إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس، فقالوا: أقم فلا تخرج ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه، فقال: ( إن له علي طاعة، وإنها ستكون أمور وفتن، لا أحب أن أكونَ أولَ مَن فتحها، فردَّ الناس وخرج إليه ).
ومع هذه المكانة والمنزلة لهذا الإمام الكبير إلا أنه كان مُزْرِيًا بنفسه، متواضعًا لله، حَذِرًا أن يُداخله كِبْرٌ أو عُجْبٌ فكان يقول: ( لو تعلمون ذنوبي ما وطِئ عقبي رجُلان، ولحثَيتُم على رأسي التراب ).
مرض ابن مسعود فعاده عثمان فقال: ( ما تشتكي؟ قال: ذنوبي! قال: فما تشتهي؟ قال: رحمةَ ربي! قال: ألا آمرُ لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني! قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه ).
عاش ابن مسعود بضعًا وستين سنة, وتوفي سنة ثنتينِ وثلاثين أو ثلاثٍ وثلاثين، وأوصى أن يصلِّي عليه الزبير بن العوّام، ولما جاء نَعِيُّه إلى أبي الدرداء قال: ( ما ترك بعده مثلَه! ).
وقال الشعبي: ( ما دخل الكوفةَ أحدٌ من الصحابة أنفعُ علمًا ولا أفقه صاحبًا من عبد الله ).
رضي الله عن عبد الله الأمين وعن سائر أصحاب رسول الله أجمعين..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..
٢٧|٥|١٤٣٨هـالموافق ٢٤|٢|٢٠١٧م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب/ محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، هذه سيرة أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر الهجرتين، وصلى إلى القبلتين، وشهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايع بيعة الرضوان، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكان من السابقين إلى الإسلام حتى قال: ( لقد رأيتُني سادسَ ستةٍ ما على ظهر الأرض مسلمٌ غيرُنا ).
ذلكم هو أبو عبد الرحمن الهُذلي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
يحكي خبر إسلامه فيقول: ( كنت أرعى غنمًا لعُقبة بن أبي مُعَيط فمرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقال: يا غلام، هل من لبن؟ قلت: نعم، ولكني مؤتمن. قال: فهل من شاة لم يَنْزُ عليها الفَحل؟ فأتيتُه بشاة، فمسح ضرعَها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، فشرب، وسقى أبا بكر. ثم قال للضرع: اقلِصْ. فقلص! ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله، علِّمني من هذا القول. فمسح رأسي وقال: يرحمك الله، فإنك غُلَيِّمٌ مُعَلَّم ).
وكان من ضعفة المسلمين ومساكينهم ومع ذلك تحمل الأذى وأسلم قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ( كُنَّا مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم: اطْرُدْ هَؤُلاَءِ؛ لاَ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا. قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلاَلٌ وَرَجُلاَنِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )).
وكان كثير الاختلاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان في السفر يعتني بفراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وسواكه ونعلَيه وطهورهِ، حتى إنه من كثرة اختلافه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُظَن أنه من أهل بيته، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ( قدمتُ أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينًا ما نرى إلا إن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم ).
وبسبب هذه الملازمة أخذ ابن مسعود الهدْيَ والسَّمتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان يُشبَّه به، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ( إن أشبه الناس هدْيًا وسمْتًا ودلًّا بمحمد صلى الله عليه وسلم عبدُ الله بن مسعود من حين يخرج إلى حين يرجع، فما أدري ما في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابنَ أمِّ عبدٍ من أقربِهم وسيلةً عند الله يوم القيامة ).
ولقد أخذ القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان عالمـًا به، من كبار من يؤخذ عنهم القرآن من الصحابة؛ بل جعله النبي صلى الله عليه وسلم في مقدمة القرّاء.
روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة ).
فقال عبد الله بن عمرو: ( لا أزال أحبه بعدما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ به ).
ويبين ابن مسعود مدى علمه بكتاب الله فيقول رضي الله عنه: ( والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلمَ مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبتُ إليه ).
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب سماع القرآن من ابن مسعود حتى قال له يومًا: ( اقْرَأْ عَليَّ الْقُرْآنَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ! قَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا ) رَفَعْتُ رَأْسِي أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ ).
وقال علقمة: ( جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني جئتك من عند رجل يُملِي المـُـصحفَ عن ظهرِ قلبٍ ففزع عمر وغضب، وقال: ويحك! انظر ما تقول. قال: ما جئتك إلا بالحق. قال: من هو؟ قال: عبدُالله بن مسعود. قال: ما أعلم أحدًا أحقَّ بذلك منه، وسأحدثك عن عبد الله، إنّا سمرنا ليلةً في بيت أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خرجنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بيني وبين أبي بكر، فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجلٌ يقرأ فقام النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إليه. فقلت: يا رسول الله، أعتَمْتَ. فغمزني بيده: اسكت. فقرأ وركع وسجد وجلس يدعو ويستغفر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل تعطه. ثم قال: من سرّه أن يقرأ القرآن رطبًا كما أُنزِل فليقرأ قراءةَ ابنِ أمِّ عبد. فعلمت أنا وصاحبي أنه عبدُ الله، فلما أصبحت غدوت إليه؛ لأبشره فقال: سبقك بها أبو بكر! وما سابقتُه إلى خيرٍ قط إلا سبقني إليه! )
وكان ابن مسعود رضي الله عنه معظّمًا للرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسروق قال: ( حدّثنا عبدُ الله يومًا فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فرَعَد! حتى رعَدَتْ ثيابُه! ثم قال: نحوَ ذا أو شبيهًا بذا ).
وعن عمرو بن ميمون قال: ( كان عبد الله يأتي عليه السنَة لا يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدّثَ ذاتَ يوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث، فَعَلَتْه كآبةٌ، وجعل العرق يتحادَرُ على جبهته! و يقول: نحو هذا أو قريبًا من هذا ).
وقد شهد له أكابر الصحابة بالعلم كعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال زيد بن وهب: ( إني لجالسٌ مع عمر بن الخطاب، إذ جاء ابنُ مسعود، فكاد الجلوسُ يُوارُونه من قِصَرِه، فضحك عمر حين رآه، فجعل عمر يُكلِّمه، ويتهلَّل وجهُه، ويُضاحِكُه، وهو قائم عليه، ثم ولَّى، فأتْبعَه عمرُ بصرَه حتى توارى، فقال: كُنَيفٌ مُلِئَ علمًا! ).
أَي؛ أَنّه وِعاءٌ للعِلْم؛ شبهه بوِعاءِ الرَّاعي الَّذِي يَضَعُ فيه كلَّ ما يَحْتاجُ إليهِ من الآلاتِ، فكذلك قَلْبُ ابنِ مَسْعُودٍ قد جُمِع فيه كُلُّ ما يَحْتاجُ إليه الناسُ من العُلومِ، وتَصْغِيرُه على جِهَةِ المَدْحِ له، وهو تَصْغِيرُ تَعظِيمٍ للكِنْفٍ، وهو وعاء الراعي الذي يحفظ فيه متاعَه.
وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأن موازينه تَثقُل به يوم القيامة رغم أنه كان قصيرًا خفيف اللحم، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابنَ مسعود، فصعِد على شجرة أمره أن يأتيَه منها بشيء، فنظر أصحابُه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعِد الشجرة فضحكوا من حُموشةِ ساقيه - أي دقة ساقيه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تضحكون؟ لرِجلُ عبدِ الله أثقلُ في الميزان يوم القيامة من أُحُد ).
رضي الله عن ابن مسعود وأرضاه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، كان ابن مسعود رضي الله عنه حريصًا على جمع الكلمة، ملتزمًا السمع والطاعة، في عسره ويسره، ومنشطه ومَكرَهِه، بعيدًا عن الفتنة وأهلها مع أنه كان متبوعًا في الدين، إمامًا للناس، له أتباع يأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه.
وكان بينه وبين عثمان رضي الله عنه خلاف في مسائل فبعث إليه عثمان يأمره بالمجيء من الكوفة إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس، فقالوا: أقم فلا تخرج ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه، فقال: ( إن له علي طاعة، وإنها ستكون أمور وفتن، لا أحب أن أكونَ أولَ مَن فتحها، فردَّ الناس وخرج إليه ).
ومع هذه المكانة والمنزلة لهذا الإمام الكبير إلا أنه كان مُزْرِيًا بنفسه، متواضعًا لله، حَذِرًا أن يُداخله كِبْرٌ أو عُجْبٌ فكان يقول: ( لو تعلمون ذنوبي ما وطِئ عقبي رجُلان، ولحثَيتُم على رأسي التراب ).
مرض ابن مسعود فعاده عثمان فقال: ( ما تشتكي؟ قال: ذنوبي! قال: فما تشتهي؟ قال: رحمةَ ربي! قال: ألا آمرُ لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني! قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه ).
عاش ابن مسعود بضعًا وستين سنة, وتوفي سنة ثنتينِ وثلاثين أو ثلاثٍ وثلاثين، وأوصى أن يصلِّي عليه الزبير بن العوّام، ولما جاء نَعِيُّه إلى أبي الدرداء قال: ( ما ترك بعده مثلَه! ).
وقال الشعبي: ( ما دخل الكوفةَ أحدٌ من الصحابة أنفعُ علمًا ولا أفقه صاحبًا من عبد الله ).
رضي الله عن عبد الله الأمين وعن سائر أصحاب رسول الله أجمعين..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..
0 التعليقات:
إرسال تعليق