تعديل

الشيخ محمد سعيدباصالح

الجمعة، 3 مارس 2017

خطبة ( الحكمة والروية في صلح الحديبية )

الحكمة والرويّة في صلح الحديبية
٤|٦|١٤٣٨هالموافق ٣|٣|٢٠١٧م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب/ محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، إن الله إذا أراد شيئا هيأ له الأسباب، وقد يأتي نصر الله -عز وجل- من حيث لا يدري الإنسان؛ بل من حيث يكره، وفي صلح الحديبية يتجلى هذا المعنى ويتجسد، ويتضح معه معنى قول الله -تعالى-: ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) فقد كان كثير من الصحابة لا يرضون بشروط صلح الحديبية ويرون أن من الذل أن يرجعوا إلى المدينة دون أن يعتمروا، ولقد أرادوا أمرًا وأراد الله -عز وجل- أمرًا آخر، والله غالب على أمره، وقد كان صلح الحديبية مقدمة وتمهيدًا وسببًا في الفتح العظيم لمكة.
كانت هذه هي النهاية، وتعالوا نبدأ من البداية.
لقد كانت البداية رؤيا رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رأى أنه يدخل مكة هو وأصحابه ويطوفون بالبيت، فلما أخبرهم -صلى الله عليه وسلم- برؤياه فرحوا واستبشروا باعتمارهم البيت ثم بزيارتهم لوطنهم الأول؛ مكة، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه، كلهم لا يريد إلا العمرة، وقد كان من عادة العرب أنهم لا يصدون أحدًا قصد البيت حاجًا أو معتمرًا، خرج الصحابة وقد ملأتهم الثقة في تحقق رؤيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرؤيا الأنبياء حق، خرجوا لا يشكون أنهم معتمرون ومطوفون.
وبينما هم في الطريق أحس بهم خالد بن الوليد وكان في طليعة، وإذا به ينطلق نذيرًا لقريش؛ يحذِّر أهلها من غزو المسلمين لهم، وعندها غيَّر -صلى الله عليه وسلم- الطريق فسلك بالمسلمين طريقًا وعرة ليتفادى الاصطدام بأهل مكة الذين خرج عدد منهم لمنع المسلمين من دخول مكة.
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يريد الحرب؛ بل يتجنبها، فقد قال: " والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " ونزل المسلمون بأقصى الحديبية يستقون الماء، وبينما هم كذلك إذ جاءهم نفر من قبيلة خزاعة وفيهم رجل يدعى بُديل بن ورقاء ينصحون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويخوفونه من قريش؛ أنها قد جمعت لهم الجموع وعزمت على قتالهم وصدهم عن البيت، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين " ثم عرض -صلى الله عليه وسلم- أن يعقد بين المسلمين وبين قريش هدنة قائلًا: " وإن قريشًا قد أنهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ".
وانطلق الوفد الخزاعي فأبلغ قريشًا بكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعندها قام عروة بن مسعود فقال: " إن هذا قد عرض لكم خطة رشد، اقبلوها ودعوني آتيه " فوافقوا.. وبدأت المفاوضات والرسل تتردد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش، فقد أرسلوا رجلًا من بني كنانة، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له " فبعثت له، واستقبله الصحابة يلبون، فلما رأى ذلك تأثر أيما تأثر وعاد إلى قريش قائلًا: " رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت " وأرسلوا بعده مكرز بن حفص، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم-: " هذا مِكرَز، وهو رجل فاجر ".
هذا ولم يكن بديل الخزاعي هو الوحيد الذي أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قريش، بل إنه -صلى الله عليه وسلم- دعا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليرسله إلى قريش، فقال له عمر: يا رسول الله لا ترسلني إليهم فإني أتخوفهم على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني؛ عثمان بن عفان، فأرسله -صلى الله عليه وسلم- سفير سلام إلى قريش، فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فأجاره ليبلغ رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما بلَّغهم أن المسلمين لم يأتوا لحرب بل جاءوا معتمرين قالوا له: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، فأجابهم: " ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ". واحتبست قريش عثمان حتى تنظر في الأمر، فلما طال تغيبه أشيعت بين المسلمين شائعة بأن قريشًا قد قتلت عثمان بن عفان، وعندها قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا -صلى الله عليه وسلم- من معه إلى مبايعته على عدم الفرار حتى الموت، وكانت هذه هي بيعة الرضوان تحت الشجرة، وقد وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- يده في يده الأخرى مبايعًا عن عثمان قائلًا: " هذه يد عثمان ".
ولما تمت البيعة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن بايعه: " أنتم اليوم خير أهل الأرض " وقال لهم: " لا يدخل النار - إن شاء الله - من أصحاب الشجرة أحد " للذين بايعوا تحتها.
وعن البراء -رضي الله عنه- قال: " تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ".
ثم إن قريشًا أرسلت سهيل بن عمرو، فاستبشر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: " لقد سهل لكم من أمركم " وقد كان؛ فقد طلب سهيل كتابة صلح بين المسلمين وبين قريش، لكنه رفض أن يكتب في بدايته: " بسم الله الرحمن الرحيم " وطلب أن يكتب بدلًا منها: " باسمك اللهم " وأبى المسلمون ذلك، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- طاوعه وأمر بكتابتها كما أراد سهيل، ثم تعنت سهيل أخرى فرفض أن يُكتب: " محمد رسول الله " قائلًا: " والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك. ولكن اكتب: محمد بن عبد الله " فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: " والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبدالله " فطاوعه -صلى الله عليه وسلم- وذلك لئلا يفشل عقد الصلح بين الطرفين.
وتم الصلح الذي كان من أهم بنوده عقد هدنة بين الطرفين لمدة عشر سنوات، وأن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير قريش دخل فيه.
ثم كانت الشروط التي اعتبرها المسلمون مُذِلة مُهِينة ظالمةً لهم، وكان أشدها وطأة على المسلمين شرطين، أولهما أن يعود المسلمون بلا عمرة هذا العام، على أن تسمح لهم قريش بالعمرة العام القادم! وثانيهما: أن يرد المسلمون من جاءهم من قريش مسلمًا، وألا ترد قريش من جاءها من المسلمين مرتدًا! وقد اتفق أن جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو في قيوده هاربًا ممن عذبوه في مكة بسبب إسلامه، وقد أبى وامتنع سهيل أن يجيزه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان موقفًا عصيبًا مؤثرًا، وقد طمأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا جندل قائلًا: " يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله -عز وجل- جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهدًا، وإنا لن نغدر بهم ".
ولم تستطع عقول أغلب الصحابة أن تستوعب هذه المطاوعة للمشركين على ما أرادوا، والرضا بهذه الشروط التي بدت في ظاهرها أنها ليست في مصلحة المسلمين مطلقًا، فهذا عمر الفاروق نفسه يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: ألست نبي الله حقًا، قال: " بلى " فيقول: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل، قال: " بلى " فيقول: فلم نعطي الدنية في ديننا إذًا؟ قال: " إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري " فيقول: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: " بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ " قال: قلت: لا، قال: " فإنك آتيه ومطوف به " ثم ذهب فأعاد نفس الكلام على مسامع أبي بكر فأجابه بمثل ما أجابه به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولم يكن باقي المسلمين أحسن حالًا من عمر؛ فبعد إبرام الصلح أمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات أن يتحللوا من إحرامهم فينحروا ويحلقوا، فما طاوعه منهم رجل، فدخل -صلى الله عليه وسلم- على أم سلمة، مغضبًا، فأشارت عليه مشورة حكيمة واعية قائلة: " يا نبي الله، أتحب ذلك، اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك " ففعل -صلى الله عليه وسلم- فقاموا فنحروا وحلقوا في غم لا يعلمه إلا الله.
ويعود المسلمون حزانى إلى المدينة، وتكتمل حلقات الكرب حين يأتي أبو بصير من قريش مسلمًا، فيرده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رجلين من قريش جاءا في طلبه، وبينما هم في الطريق إذ قتل أبو بصير أحدهما، وهرب الآخر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجاء أبو بصير قائلًا: " يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم " فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد " فعلم أنه سيرده إليهم، فيخرج أبو بصير حتى يأتي سيف البحر ويجتمع حوله كل من أسلم من قريش وكان أولهم لحوقًا به أبو جندل بن سهيل.
وعندها بدأت تتكشف أمارات حكمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في القبول بتلك الشروط المجحفة -في ظاهرها- بالمسلمين؛ فقد اجتمعت مع أبي بصير جماعة كبيرة، وصارت لا  تسمع بقافلة لقريش إلا هاجمتها، فبعثت قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تناشده بالله والرحم أن يدخلهم المدينة ليكفوا عن مهاجمتهم!
وخيط النور الثاني أن حقن الله -عز وجل- بهذا الصلح دماءً كانت عرضة أن تسيل من الطرفين، فلو دخل المسلمون مكة والنفوس متوترة والمشاعر متأججة لكان الموقف عرضة أن ينفجر في أي لحظة فتشتعل الحرب بين المسلمين وأهل قريش، فكانت الحكمة ألا يدخل المسلمون مكة حتى تهدأ النفوس وتستكين للأمر الواقع.
ثم كان خيط النور الأعظم أن قريشًا حين نقضت الصلح -فهاجم حلفاؤها حلفاءَ المسلمين-، كان ذلك سببًا في الفتح المبين لمكة التي دخل أهلها في دين الله أفواجًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، نقتبس من صلح الحديبية بعض العبر والعظات:
ومنها: عجز العقل البشري وضعفه؛ فلقد اتضح للمسلمين -فيما بعد- أن الخير كله كان في ذلك الصلح الذي عدُّوا شروطه مجحفة بهم، وصدق الله حين قال: ( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ).
ومنها: أن في طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الرشد والخير؛ فقد أراد المسلمون القتال ودخول مكة عَنوة، وأراد الله -عز وجل- شيئًا آخر، ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ).
ومنها: أن القدوة العملية أبلغ من المقال؛ فقد امتنعوا إذ كلَّمهم -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأوه -صلى الله عليه وسلم- يفعل، اقتدوا به.
ومنها: أن الأصل في الإسلام هو السلام وحقن الدماء وهو واضح في كل أحداث واقعة الحديبية وأعلنه النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة.
ومنها: خبرة الداعية بمعادن الرجال ونقاط إقناعهم؛ فلما أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رسول قريش الأول يعظِّم البدن، أمر أن تُرسل أمامه ليراها، بل استقبله المسلمون يلبون، في دلالة واضحة أنهم ما جاءوا إلا للعمرة وحدها، ثم لما جاء مكرز قال -صلى الله عليه وسلم-: " هذا مكرز، وهو رجل فاجر " فعلى الداعية أن يكون خبيرًا بالنفوس ومداخلها ثم بكيفية استغلال ذلك.
ومنها: وجوب التفاؤل والثقة في الله -تعالى-؛ فإن قريشًا لما أرسلت سهيل بن عمرو، تفاءل به النبي -صلى الله عليه وسلم- واستبشر وقال: " لقد سُهِّل لكم من أمركم " وهكذا يجب أن يكون الداعية؛ مستبشرًا متفائلًا واثقًا يبعث الاستبشار والتفاؤل والثقة فيمن حوله.
ومنها: المرونة؛ فإن الداعية عامة، والمفاوض خاصة في حاجة إلى قدر كبير من المرونة لتحصيل مصالح المسلمين.
والدروس والعبر منها لا تكاد تنحصر..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More