تعديل

الشيخ محمد سعيدباصالح

الجمعة، 19 مايو 2017

خطبة ( ليدبروا آياته )

( لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ )
٢٣|٨|١٤٣٨هالموافق ١٩|٥|٢٠١٧م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب/ محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، قال الله عز وجل: ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ). 
فهذا الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فيه خيرٌ كثير، وعلمٌ غزير، فيه كل هدى من ضلالة، وشفاء من داء، ونور يستضاء به في الظلمات، وكلُّ حكمٍ يحتاج إليه المكلفون، وفيه من الأدلة القطعية على كل مطلوب، ما كان به أجلَّ كتاب طرَقَ العالَم منذ أنشأه اللّه.
( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ ) أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناسُ آياتِه، فيستخرجوا عِلمَها ويتأملوا أسرارَها وحِكَمَها، فإنه بالتدبر فيه والتأملِ لمعانيه، وإعادةِ الفكر فيها مرة بعد مرة، تُدرَكُ بركتُه وخيرُه، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضلُ من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود.
( وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ) أي: أولو العقول الصحيحة، يتذكرون بتدبرهم لها كلَّ علمٍ ومطلوب، فدل هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب.
ومتى خلُصت حياة الإنسان لله وتعلق قلبه به وجد أُنسًا بالقرآن لا ينتهي، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: " لو أن قلوبنا طهرت ما شبعت من كلام ربنا، وإني أكره أن يمر علي يوم لا أنظر في المصحف ". 
فإذا قرأت القرآن فعش مع آياته ولذيذ خطابه وبليغ عظاته، وتذكر نزولَها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأثرَها في حياتهم وتفهّم معانيها فإن غابت عنك معانيها ولم تجد أثرها في حياتك فابكِ على نفسك قال عمرو بن مرة: " ما مررت بآية في كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنَتْني؛ لأني سمعت الله يقول: ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) ". 
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " قرأت الليلة آية أسهرتْني! ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) فقرأها كلها، فقال: ما عُنِيَ بها؟ فقال بعض القوم: الله أعلم. فقال: إني أعلم أن الله أعلم ولكن إنما سألت إن كان عند أحد منكم علم، وسمع فيها بشيء أن يخبر بما سمع. فسكتوا، فرآني أهمس قال: قل يا ابن أخي، ولا تحقر نفسك، قلت: عُنِي بها العمل. قال: وما عُنِيَ بها العمل؟ قلت: شيء ألقي في رُوعي فقلتُه. فتركني، وأقبل وهو يفسرها ويقول: صدقت يا ابن أخي، عُنِي بها العمل، ابنُ آدم أفقر ما يكون إلى جنته إذا كبر سنه وكثر عياله، وابن آدم أفقر ما يكون إلى عمله يوم القيامة، صدقتَ يا ابن أخي ". 
ومما يعين على تدبر القرآن ترتيلُ آياتِه والتمهل في قراءته والتغني به عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن ".
وعن مطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير عن أبيه قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المِرْجَل من البكاء " والأزيز صوت غليان القِدْر. 
وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتًا بالقرآن فقال له عمر رضي الله عنه: " اعرض علي سورة كذا، فعرض عليه فبكى عمر رضي الله عنه وقال: ما كنت أظن أنها نزلت! ".
ومما يعين على تدبر القرآن الوقوف عند المعاني عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلًا، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح وإذا مرّ بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ, ثم ركع ". 
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: " قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام فقرأ آل عمران ثم قرأ سورةً سورة ".
قال الله عز وجل: ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ). 
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، ضرب لنا السلف الصالح أروع الأمثلة في تدبر القرآن والعيش معه. 
قال ابن أبي مُلَيكة رحمه الله: " سافرت مع ابن عباس رضي الله عنهما من مكة إلى المدينة فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفًا، حرفًا ثم يبكي حتى تسمع له نشيجًا ". 
ومما يعين على التدبر تكرار الآية عن عبّاد بن حمزة رحمه الله قال: " دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ ( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ) فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو فطال علي ذلك فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو ". 
وعن سعيد بن جُبَير رحمه الله أنه أحرم بنافلة بعد العشاء فاستفتح ( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ) فلم يزل فيها حتى نادى منادي السحر. 
وعن الضحاك رحمه الله أنه ردد قوله تعالى: ( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) إلى السحر. 
وعن عامر بن عبد قيس رحمه الله أنه قرأ ليلة سورة المؤمن فلما انتهى إلى قوله ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ) فلم يزل يرددها حتى أصبح. وقرأ قوله تعالى: ( فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا ) فجعل يبكي ويرددها حتى أسحر. 
وقام تميم الداري رضي الله عنه بقوله تعالى: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) حتى أصبح. وكذلك قام بها الربيع بن خُثَيم. 
وضرب لنا السلف الصالح أروع الأمثلة في العمل بالقرآن واتباع أحسنِه عن عائشة رضي الله عنها قالت: " لما أنزل الله براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه - وكان ينفق على مِسطح بن أُثاثة لقرابته وفقره - والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد ما قال لعائشة, فأنزل الله ( وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال أبو بكر: بلى والله؛ إني أحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا ".  
اللهم إنا نعوذ بك من القسوة والغفلة، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع ودعوة لا يستجاب لها. 
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More