تعديل

الشيخ محمد سعيدباصالح

الجمعة، 13 فبراير 2015

شرح حديث " تعس عبد الدينار.. "



شرح حديث " تعس عبد الدينار.. "
[ 24/4/1436هـالموافق 13/2/2015م ]
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يُعطَ لم يرضَ " وفي رواية: " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع ".
إنه حديث عظيم يشير إلى نوع من أنواع العبودية لغير الله؛ عبودية التعلق بالدنيا على حساب الدين. العبودية التي يضحي فيها الإنسان بالدين من أجل الدنيا.
من أجل الدرهم والدينار غاب عن صلاة الجماعة فلا تكاد تراه إلا في مناسبة عامة بعد أن كان حمامة من حمام المسجد، ومن أجل المفارش والملابس الأنيقة أكلَ الربا والرُّشا.. وديدنه " سَيُغْفَرُ لَنَا "، و عن قريب سنعود! وتفكيره لا يعدو أنه سيأخذ نصيبه من الدنيا ثم يعود للإيمان والعمل الصالح..
هكذا يفكر.. وهكذا يؤمل.. ونسي أن الدنيا غرّارة.. وأن قليلها يدعو إلى كثيرها.. وكثيرها لا ينتهي.. و " لو أن لابن آدم واديًا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب ".. ولكن هكذا يسوف له الشيطان أنه سيترك العمل الصالح برهة من الزمان ثم يعود.. لكنه أمل غير مضمون.. يهدد صاحبه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالشقاء والهلاك والانكباب على الوجه ومعاودة المرض مرة بعد أخرى وفقدان المُعين المخلّص من العثرة والكبوة..
" تعس وانتكس " أي شقي وهلك وعاوده المرض بعدما شفي منه..
" وإذا شيك فلا انتقش " أي إذا أصابته شوكة فلا وجد من يخرجها منه!
كم من إنسان كان له دويٌّ بالقرآن كدويِّ النحل فلما دخل في الدنيا هجر القرآن.. كان قلبه معلقًا بالمساجد؛ يرقب الأذان كلما رفع، فصار لا يعرف المساجد
والتعلق بالدنيا ليس قاصرًا على المال والنقود بل يشمل محبة الرياسة والشرف والجاه..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ".
الحرص على المال والحرص على الشرف والجاه والزعامة يفسد الدين أكثر من إفساد ذئبين جائعين أرسلا في غنم فعاثا فيها فسادًا.. 
ومن أجل الدنيا تقطع الأرحام وتسفك الدماء.. ومن أجل الزعامة والقيادة تهدر حرمات المسلم من نفس أو مال..
وما أكثر الصراعات الدائرة بين الناس اليوم إلا مثال على القتال من أجل الدنيا والملك؛ الصراع من أجل المال والنفوذ؛ الصراع من أجل الزعامة والجاه..   
ومن الناس من يطلب المال ومنهم من يطلب المناظر الجميلة فالأول عبد الدينار والدرهم والثاني عبد القطيفة والخميصة.
ومن الأمارات الدالة على التعلق بالدنيا أنه إذا أعطي من الدنيا رضي وإذا لم يعط منها سخط.. فقلبه متعلق بالدنيا وليس له كبير التفات إلى الآخرة والعمل الصالح، والحرص عنده في هذا الباب ضعيف..
وهذا الحرص على الدنيا لا يزيد الرزق ولا يزيد المال ولا يأتي الإنسان إلا ما قدّر له..
عليه وسلم: " أجملوا في طلب الدنيا فإن كلًا ميسر لما كتب له منها ".
والحرص على الحلال وتحري أبوابه مطلب شرعي عظيم وهو سبب للرزق والبركة والحفظ من المكروه والآفات..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته ".
أيها المسلمون، لقد تفشى الفساد المالي وانتشرت الرشوة والاختلاس والسرقات الخفية والعلنية، وكثر الخداع والاحتيال، تحت مبررات كثيرة.. منهم من يبرر الحرام بأنه مال الدولة، وما درى أن مال الدولة حق لكل المسلمين وأن المطالب به يوم القيامة هم كل هؤلاء المسلمين المشاركين لك في هذا المال..
ومن الناس من يبرر المعاملات المحرمة بأن صاحب العمل ظالم فيتساهل في سرقة ماله أو اختلاسه..
وهي مبررات واهية؛ إذ كيف جعلت من نفسك  مدعيًا وقاضيًا في نفس الوقت!
 ألا إنه " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه "
أيها المسلمون، لقد غرت الدنيا أناسًا وقضت على أمانتهم وضمائرهم.. وعزّت الأمانة في الناس فلا تكاد تجد إنسانًا أمينًا إلا ما شاء الله..
وهؤلاء لهم نصيب من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ".
وأشد الناس خسارة من باع دينه بدنياه قال جل وعلا: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾
أي: وَمِنَ النَّاسِ صِنْفٌ لَمْ يَتَمَكَّنِ الإِيْمَانُ مِنْ قلْبِهِ؛ بَلْ هُوَ مُتَزَعْزِعُ العَقِيدَةِ، تَتَحَكَّمُ مَصَالِحُهُ فِي إِيْمَانِهِ، فًَإِنْ أَصَابِهُ رَخَاءٌ وَسَعَةُ عَيْشٍ، رَضِيَ وَاطْمَأَنَّ وَاسْتَبْشَرَ بالدِّينِ فَعَبَدَ الله، وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ وَبَلاَءٌ، وَضِيقُ عَيْشٍ، ارْتَدَّ وَرَجََعَ إِلى الكُفْرِ فَخَسِرَ فِي الدُّنْيَا رَاحَةَ الاطْمِئْنَانِ إِلى قَضَاءِ اللهِ وَنَصَرِهِ، كَمَا خَسِرَ فِي الآخِرَةِ النَّعِيمَ.
وقد رأينا كثيرًا من هذا الصنف؛ في الصباح  مع الإسلاميين وفي المساء مع العلمانيين؛ في النهار مع السنة وفي المساء مع الشيعة؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ".
لا عهد ولا ميثاق.. يبيعون دينهم وبلادهم وإخوانهم بعرض من الدنيا..
لكنها خَلةٌ قد سِيطَ من دمها * فجْعٌ وولْعٌ وإخلاف وتبديلُ
فما تدوم على حال تكون بها * كما تَلوَّنُ في أثوابها الغولُ
وما تمسّكُ بالعهد الذي زعمت * إلا كما يمسك الماءَ الغرابيلُ
فلا يغرّنْك ما منّتْ وما وعدتْ * إن الأمانيَّ والأحلامَ تضليلُ
كانت مواعيدُ عرقوبٍ لها مثلًا * وما مواعيدُها إلا الأباطيلُ
وفي مقابل هؤلاء رجال صادقون.. ﴿ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾..
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، حكى لنا القرآن قصة حصلت في الزمن الغابر لمن باع دينه بدنياه..  قال تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴾..
أي وَاقْصُصْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى اليَهُودِ قِصَّةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الذِي آتَيْنَاهُ حُجَجَ التَّوْحِيدِ، وَأَفْهَمْنَاهُ أَدِلَّتَهُ حَتَّى صَارَ عَالِماً بِهَا، فَانْسَلَخَ مِنْهَا، وَتَرَكَهَا وَرَاءَهُ ظِهْرِيًّا، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا لِيَهْتَدِيَ بِهَا. وَبَعْدَ أَنْ انْسَلَخَ مِنْهَا وَتَرَكَهَا وَرَاءَهُ بِاخْتِيَارِهِ، لَحِقَهُ الشَّيْطَانُ فَأَدْرَكَهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الوَسْوَسَةِ إِلَيْهِ إِذْ لَمْ يَبْقَ لَدَيْهِ مِنْ نُورِ البَصِيرَةِ، وَلاَ مِنْ أمَارَاتِ الهِدَايَةِ مَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَبُولِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، فَصَارَ مِنَ الضَّالِّينَ.
وَرُوِيَ أنَّ هذِهِ القصَّةَ هِيَ قِصَّةُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، لا يَسْأَلُ اللهُ شَيْئاً إلاَّ أعْطَاهُ إيَّاهُ، فَلَمَّا أرَادَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، الذِي تَسَلَّمَ أمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى، أنْ يُحَارِبَ الجَبَّارِينَ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، انْسَلَخَ هذا الرَّجُلُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَاحَ إلى الجَبَّارِينَ يُحَرِّضُهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إذَا خَرَجْتُمْ لِقِتَالِ بَنِي إسْرَائِيلَ فَإنِّي أدْعُو عَلَيْهِمْ فَأُهْلِكُهُمْ. فمثله كمَثَل الكَلْبِ فِي لُهَاثِه ، فَهُوَ فِي هَمٍّ دَائم ، وَشُغْلٍ شَاغِل، فِي جَمْعِ عَرَضِ الدُّنيا وَزُخْرُفِها، وَهُوَ كَالّلاهِثِ مِنَ الإِعْيَاءِ وَالتَّعَبِ، وَإِنْ كَانَ مَا يُعنَى بِهِ حَقِيرًا لاَ يُتْعِبُ وَلاَ يُعْيِي، وَتَرَاهُ كَلّمَا أَصَابَ سعَةً مِنَ الرِّزْقِ فِي الدُّنيا، زَادَ طَمَعاً فِيهَا.
أجارنا الله و إياكم من ذلك.. ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..


0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More