تعديل

الشيخ محمد سعيدباصالح

الجمعة، 23 ديسمبر 2016

دروس من سورة الكهف
٢٤|٣|١٤٣٨هـالموافق ٢٣|١٢|٢٠١٦م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب/ محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، تَرتبِط سورة الكهف ارتباطًا وثيقًا بأحداثِ آخِر الزمان؛ والفتن العظيمة التي تصاحبها، ومنها ظهور الدجال الأكبر الذي يُمهِّد له دجالون صغار؛ صناعتهم الكذب، وبضاعتهم التمويه وقلب الحقائق، وغاياتهم الدنيئة تُبرِّر وسائلهم وأساليبهم التي لا تَعرِف صِدقًا ولا رحمةً ولا عدلاً. وقد اشتملت السورة على أربع قصص متَّفقة في أغراضها ومدلولاتها؛ وهي: قصة الفِتية المؤمنين، وقصة صاحب الجنتين، وقصة موسى والخضِر، وقصة ذي القرنين. وكلها تُعالج قضية الصراع بين الإيمان والمادية، بين الحقيقة والزَّيف، بين العلم بظواهر الأمور وبواطنِها وما تؤول إليه، بين راغبي الدنيا المُغترِّين بزينتها، وبين طالبي الآخرة الذين يَزِنون الأمور بميزان العدل والخير، وتضع خريطة طريق واضحة المعالم لطالبي النجاة من الفتن.
فقصص سورة الكهف الأربع يربطها محور واحد وهو أنها تجمع الفتن الأربع في الحياة: فتنة الدين: في (قصة أهل الكهف)، وفتنة المال في (قصة صاحب الجنتين)، وفتنة العلم في (قصة موسى عليه السلام والخضر) وفتنة السلطة في ( قصة ذي القرنين )، وهذه الفتن شديدة على الناس، والمحرك الرئيس لها هو الشيطان الذي يزيّن هذه الفتن ولذا قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)، وكان -عليه الصلاة والسلام- يستعيذ في صلاته من أربع منها فتنة المسيح الدجال.
وقصص سورة الكهف ككل تتحدث عن إحدى هذه الفتن ثم يأتي بعده تعقيب بالعصمة من الفتن.
فمن هذه الفتن: فتنة الدين، في قصة الفتية الذين هربوا بدينهم من الملك الظالم فأَوَوْا إلى الكهف حيث حدثت لهم معجزة إبقائهم فيه ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعًا، وكانت القرية قد أصبحت كلها على التوحيد.
ثم تأتي آيات تشير إلى كيفية العصمة من هذه الفتنة، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا).
الفتنة الثانية: فتنة المال، في قصة صاحب الجنتين الذي آتاه الله كل شيء فكفر بأنعم الله وأنكر البعث فأهلك الله –تعالى- الجنتين.
ثم تأتي العصمة من هذه الفتنة: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا).
الفتنة الثالثة: فتنة العلم، في قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر وكان ظنّ أنه أعلم أهل الأرض فأوحى له الله –تعالى- بأن هناك من هو أعلم منه فذهب للقائه والتعلم منه فلم يصبر على ما فعله الخضر؛ لأنه لم يفهم الحكمة في أفعاله وإنما أخذ بظاهرها فقط. وتأتي آية العصمة من هذه الفتنة: (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا).
الفتنة الرابعة: فتنة السلطة، في قصة ذي القرنين الذي كان ملكًا عادلًا يمتلك العلم وينتقل من مشرق الأرض إلى مغربها ويدعو إلى الله وينشر الخير حتى وصل لقوم خائفين من هجوم يأجوج ومأجوج فأعانهم على بناء سد لمنعهم عنهم وما زال السدّ قائمًا إلى يومنا هذا.
وتأتي آية العصمة: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) ولعل قصة أصحاب الكهف كانت الأبرز في هذه السورة لذلك سميت السورة باسمها، وطارت الشهرة كلُّها لأصحابها.
أيها المسلمون، لما كانت سورة الكهف بهذه المثابة جاءت الأحاديث في فضل حفظها وتلاوتها.
فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال" وفي رواية " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ".
وفي الصحيحين عن البراء قال: " قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: اقرأ فلان، فإن السكينة نزلت للقرآن ". وهذا الذي كان يقرأ هو الصحابي الجليل أسيد بن حضير رضي الله عنه.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " من قرأ سورة الكهف كانت له نورًا من مقامه إلى مكة، ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضره " وفي رواية " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين ".
كل هذا الفضل لما فيها من الدلالة على العصمة من الفتن والشرور والمهالك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، الدروس والعبر والعظات الدعوية والتربوية والإيمانية والعقائدية المستفادة من قصة أصحاب الكهف تصلح لئن تكون دستورًا للسالكين على طريق الله، والباحثين عن مرضاته – جل وعلا – فهي بحق من أعظم القصص القرآني الحكيم الذي يولد دفقات إيمانية وثابة في القلب والنفس والروح. فمن أبرز الدروس المستفادة من قصة أصحاب الكهف: درس الثبات على الحق. وإن من أقوى ما يعين على الثبات على الحق أن تستحضر أن الطريق الذي تسير عليه قد سار قبلك فيه خيرة الخلق، أنبياء الله وأولياؤه، فاستحضر على بعد الديار والأزمان مسيرهم، وأنك معهم، وإن افترقت الأبدان الآن فإن الأرواح مجتمعة، وكذلك استحضر أن الكون كله -إلا الثقلين- يعبد الله -سبحانه وتعالى-، وأن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض والطير صافات، وأن الله يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن.
ومن الدروس المستفادة: درس الأمة الواحدة، فإن أصحاب الكهف لما صرّح بعضهم لبعض بسبب خروجه، وعرفوا أنهم فارقوا دين قومهم كراهية له؛ اجتمعوا وصاروا يدًا واحدة، وطائفة واحدة، (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) قال ابن كثير: " صاروا يداً واحدة، وأعان كل منهم الآخر، وصاروا إخوان صدق، وتوافقوا على كلمة واحدة حتى يستطيعوا عبادة الله -عز وجل- ".
فالواجب أن تأتلف القلوب وتجتمع؛ لأن التمزق والتفرق يؤدي إلى التنازع والشحناء والبغضاء، وهذا هو الذي سبب ما يرى من غثاء السيل كما وصف النبي -عليه الصلاة والسلام-، فآلاف الملايين من المسلمين عاجزون عن أن يصنعوا شيئًا لأعداء الله من الكفرة المجرمين من اليهود والنصارى والمشركين..
فعودوا إلى منهج الله وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وجسدوا معنى الأمة الواحدة تكونوا أقوى الناس وأصلح الناس.
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More