( شرح حديث أبي ذر ( ١ ) )
٢٤|٧|١٤٣٨هالموافق ٢١|٤|٢٠١٧م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب/ محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، عَنْ أَبِى ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوني فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ".
أيها المسلمون، كان أبو إدريس الخَولاني - رحمه الله - إذا روى هذا الحديث جثا على ركبتيه؛ من عظمة هذا الحديث، ونحن اليوم بحاجة ماسة إلى الوقوف على معاني هذا الحديث العظيم وتدبره والعمل به وإحياء القلوب الغافلة بما فيه من العظات البالغات.
فقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي " يعني أنه منع نفسه من الظلم لعباده كما قال عز وجل: ( وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) وقال: ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ) وقال: ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ) وقال: ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) وقال: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ) وقال: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ) وقال: ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ) والهضم: أن يُنقَص من جزاء حسناته والظلم: أن يُعاقَب بذنوب غيره.
وقد فسر كثير من العلماء الظلم بأنه وضع الأشياء في غير مواضعها.
وقوله: " وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " يعني أنه تعالى حرم الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرام على كل عبد أن يظلم غيره، مع أن الظلم في نفسه محرم مطلقًا، وهو نوعان:
أحدهما: ظلم النفس، وأعظمه الشرك كما قال تعالى: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق، فعبده وتألهه، فهو وضَع الأشياء في غير مواضعها، وأكثر ما ذُكِر في القرآن وعيد للظالمين إنما أريد به المشركون كما قال الله عز وجل: ( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ). ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر.
والثاني: ظلم العبد لغيره، وهو المذكور في هذا الحديث، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة " وفيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله ليُملي الظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه ثم قرأ ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) " وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها؛ فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، مِن قبل أن يُؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أُخِذ من سيئات أخيه فطُرِحتْ عليه ".
وقوله: " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم " هذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم، في أمور دينهم ودنياهم، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم شيئًا من ذلك كلِّه، وأنَّ من لم يتفضلِ الله عليه بالهدى والرزق فإنه يُحرَمُهما في الدنيا، ومن لم يتفضلِ الله عليه بمغفرة ذنوبه أوبَقَتْهُ خطاياه في الآخرة قال الله تعالى : ( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ) وقال تعالى: ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) وقال: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ) وقال تعالى حاكيًا عن آدم وزوجِه عليهما السلام أنهما ( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) وعن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) وقد استدل إبراهيم الخليل عليه السلام بتفرد الله بهذه الأمور على أنه لا إله غيره وأن كل ما أُشرِكَ معه باطل فقال لقومه: ( أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ. رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) فإن من تفرد بخلق العبد وبهدايته وبرزقه وإحيائه وإماتته في الدنيا وبمغفرة ذنوبه في الآخرة مُستحِق أن يفرد بالإلهية والعبادة والسؤال والتضرع والاستكانة له، قال الله عز وجل : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) وفي الحديث دليل على أن الله يحب أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم ودنياهم من الطعام والشراب والكسوة وغير ذلك كما يسألونه الهداية والمغفرة؛ فإن كل ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله فقد أظهر حاجته فيه وافتقاره إلى الله وذاك يحبه الله قال تعالى: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، قال تعالى في الحديث القدسي: " يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم " فيه أن الهداية بيد الله، والهداية نوعان: هداية مجملة، وهي الهداية للإسلام والإيمان، وهي حاصلة للمؤمن، وهداية مفصلة، وهي هداية إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلًا ونهارًا، ولهذا أمر الله عباده أن يقرأوا في كل ركعة من صلاتهم قولَه: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه بالليل: " اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ".
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يسأل الله الهدى والسداد، وعلَّم الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يقول في قنوت الوتر: " اللهم اهدني فيمن هديت.. ".
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..
٢٤|٧|١٤٣٨هالموافق ٢١|٤|٢٠١٧م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب/ محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، عَنْ أَبِى ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوني فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ".
أيها المسلمون، كان أبو إدريس الخَولاني - رحمه الله - إذا روى هذا الحديث جثا على ركبتيه؛ من عظمة هذا الحديث، ونحن اليوم بحاجة ماسة إلى الوقوف على معاني هذا الحديث العظيم وتدبره والعمل به وإحياء القلوب الغافلة بما فيه من العظات البالغات.
فقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي " يعني أنه منع نفسه من الظلم لعباده كما قال عز وجل: ( وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) وقال: ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ) وقال: ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ) وقال: ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) وقال: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ) وقال: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ) وقال: ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ) والهضم: أن يُنقَص من جزاء حسناته والظلم: أن يُعاقَب بذنوب غيره.
وقد فسر كثير من العلماء الظلم بأنه وضع الأشياء في غير مواضعها.
وقوله: " وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " يعني أنه تعالى حرم الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرام على كل عبد أن يظلم غيره، مع أن الظلم في نفسه محرم مطلقًا، وهو نوعان:
أحدهما: ظلم النفس، وأعظمه الشرك كما قال تعالى: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق، فعبده وتألهه، فهو وضَع الأشياء في غير مواضعها، وأكثر ما ذُكِر في القرآن وعيد للظالمين إنما أريد به المشركون كما قال الله عز وجل: ( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ). ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر.
والثاني: ظلم العبد لغيره، وهو المذكور في هذا الحديث، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة " وفيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله ليُملي الظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه ثم قرأ ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) " وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها؛ فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، مِن قبل أن يُؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أُخِذ من سيئات أخيه فطُرِحتْ عليه ".
وقوله: " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم " هذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم، في أمور دينهم ودنياهم، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم شيئًا من ذلك كلِّه، وأنَّ من لم يتفضلِ الله عليه بالهدى والرزق فإنه يُحرَمُهما في الدنيا، ومن لم يتفضلِ الله عليه بمغفرة ذنوبه أوبَقَتْهُ خطاياه في الآخرة قال الله تعالى : ( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ) وقال تعالى: ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) وقال: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ) وقال تعالى حاكيًا عن آدم وزوجِه عليهما السلام أنهما ( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) وعن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) وقد استدل إبراهيم الخليل عليه السلام بتفرد الله بهذه الأمور على أنه لا إله غيره وأن كل ما أُشرِكَ معه باطل فقال لقومه: ( أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ. رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) فإن من تفرد بخلق العبد وبهدايته وبرزقه وإحيائه وإماتته في الدنيا وبمغفرة ذنوبه في الآخرة مُستحِق أن يفرد بالإلهية والعبادة والسؤال والتضرع والاستكانة له، قال الله عز وجل : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) وفي الحديث دليل على أن الله يحب أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم ودنياهم من الطعام والشراب والكسوة وغير ذلك كما يسألونه الهداية والمغفرة؛ فإن كل ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله فقد أظهر حاجته فيه وافتقاره إلى الله وذاك يحبه الله قال تعالى: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، قال تعالى في الحديث القدسي: " يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم " فيه أن الهداية بيد الله، والهداية نوعان: هداية مجملة، وهي الهداية للإسلام والإيمان، وهي حاصلة للمؤمن، وهداية مفصلة، وهي هداية إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلًا ونهارًا، ولهذا أمر الله عباده أن يقرأوا في كل ركعة من صلاتهم قولَه: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه بالليل: " اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ".
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يسأل الله الهدى والسداد، وعلَّم الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يقول في قنوت الوتر: " اللهم اهدني فيمن هديت.. ".
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..
0 التعليقات:
إرسال تعليق