( شرح حديث أبي ذر ( ٢ ) )
٢|٨|١٤٣٧هالموافق ٢٨|٤|٢٠١٧م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب/ محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، ما زلنا مع حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: " يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ".
فالعبد أحوج ما يكون إلى الاستغفار؛ لأنه يخطِئ بالليل والنهار، ومن رحمة الله أنه يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
وقوله تبارك وتعالى: " يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي, وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ".
يدل على أن العباد لا يقدرون على أن يوصلوا إلى الله نفعًا ولا ضَرًّا؛ فإن الله تعالى في نفسه غني حميد، لا حاجة له بطاعات العباد، ولا يعود نفعها إليه، وإنما هم ينتفعون بها، ولا يتضرر بمعاصيهم، وإنما هم يتضررون بها، قال الله عز وجل: ( وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) وقال حاكيًا عن موسى عليه السلام: ( وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ).
والله سبحانه يحب من عباده أن يتقوه ويطيعوه، كما أنه يكره منهم أن يعصوه، هذا كله مع غناه عن طاعات عباده وتوباتِهم إليه، وأنه إنما يعود نفعها إليهم دونه، ولكن هذا من كمال جوده وإحسانه إلى عباده ومحبته لنفعهم ودفع الضر عنهم، فهو يحب من عباده أن يعرفوه ويحبُّوه ويخافوه ويتقوه ويطيعوه ويتقربوا إليه، ويحب أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوبَ غيرُه، وأنه قادر على مغفرة ذنوب عباده، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن عبدًا أذنب ذنبًا فقال: يا رب، إني فعلت ذنبًا فاغفر لي, فقال الله: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب, قد غفرت لعبدي ".
والعبد إذا خاف من مخلوق هرب منه وفرَّ إلى غيره، وأما من خاف من الله فما له من ملجأ يلجأ إليه، ولا مهربٍ يهرب إليه إلا هو فيهرب منه إليه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: " لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك "، وكان يقول: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".
أسأتُ ولم أُحسِنْ وجئتُك تائبًا
وأنَّى لعبدٍ عن مَوالِيهِ يَهرُبُ!
يُؤمِّل غفرانًا فإن خاب ظنُّه
فما أحدٌ منه على الأرضِ أخيبُ
وقوله تبارك وتعالى: " يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ".
فيه إشارة إلى أن ملكه لا يزيد بطاعة الخلق، ولو كانوا كلُّهم خِيَرةً برَرَة، قلوبهم على قلب أتقى رجلٍ منهم، ولا يَنقُص ملكه بمعصية العاصين، ولو كانوا كلُّهم كَفَرةً فجرة، قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم؛ فإنه سبحانه الغني بذاته عمن سواه، وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فملكه ملك كامل، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، على أي وجه كان.
وفيه دليل على أن الأصل في التقوى والفجور هي القلوب، فإذا برّ القلب واتقى برّت الجوارح، وإذا فجر القلب فجرت الجوارح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " التقوى ههنا " وأشار إلى صدره.
وقوله تبارك وتعالى: " يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوني فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ".
فيه كمالُ قدرة الله، وكمالُ ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنفد، ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأولين والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد، وفي ذلك حث الخلق على سؤاله، وإنزال حوائجهم به، قال رسول الله صلى الله عليه سلم: " يد الله مَلْأى، لا يَغيضُها نفقة، سحاء الليلَ والنهار، أفرأيتم ما أنفق ربكم منذ خلق السموات والأرض؛ فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه ".
وقوله تبارك وتعالى: " مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ " لتحقيق أن ما عنده لا ينقص البتّة؛ فإن البحر إذا غُمِسَ فيه إبرة ثم أخرجت لم تنقص من البحر بذلك شيئًا.
قال الله عز وجل: ( مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: " يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ".
أي أوفِّيكم جزاء أعمالكم في الآخرة " فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ " فالخير كلُّه فضلٌ من الله على عبده من غير استحقاق له، والشر كله من عند ابن آدم؛ من اتباع هوى نفسه كما قال عز وجل: ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) فالله سبحانه إذا أراد توفيقَ عبدٍ وهدايتَه أعانه ووفقه لطاعته، وكان ذلك فضلًا منه ورحمة، وإذا أراد خذلانَ عبدٍ وكَلَهُ إلى نفسه وخلَّى بينه وبينها، فأغواه الشيطان لغفلته عن ذكر الله، واتبع هواه وكان أمره فرطًا، وكان ذلك عدلًا من الله وحكمة؛ فإن الحجة قائمة على العبد بإنزال الكتاب وإرسال الرسول، فما بقِيَ لأحدٍ من الناس على الله حجة بعد الرسل، فقوله بعد هذا " فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه " أي من وجد خيرًا في الآخرة فليحمد الله على فضله، ومن وجد غير ذلك في الآخرة فلا يلومنّ إلا نفسه يوم لا تنفع ملامة ولا ندامة.
وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الجنة أنهم يحمدون الله على ما رزقهم من فضله فقال تعالى: ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) وقال عز وجل: ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ) وقال عز وجل: ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) وأخبر عن أهل النار أنهم يلومون أنفسهم ويمقتونها أشدَّ المقت فقال تعالى: ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) وقال جل وعلا: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ).
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..
٢|٨|١٤٣٧هالموافق ٢٨|٤|٢٠١٧م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب/ محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، ما زلنا مع حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: " يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ".
فالعبد أحوج ما يكون إلى الاستغفار؛ لأنه يخطِئ بالليل والنهار، ومن رحمة الله أنه يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
وقوله تبارك وتعالى: " يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي, وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ".
يدل على أن العباد لا يقدرون على أن يوصلوا إلى الله نفعًا ولا ضَرًّا؛ فإن الله تعالى في نفسه غني حميد، لا حاجة له بطاعات العباد، ولا يعود نفعها إليه، وإنما هم ينتفعون بها، ولا يتضرر بمعاصيهم، وإنما هم يتضررون بها، قال الله عز وجل: ( وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) وقال حاكيًا عن موسى عليه السلام: ( وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ).
والله سبحانه يحب من عباده أن يتقوه ويطيعوه، كما أنه يكره منهم أن يعصوه، هذا كله مع غناه عن طاعات عباده وتوباتِهم إليه، وأنه إنما يعود نفعها إليهم دونه، ولكن هذا من كمال جوده وإحسانه إلى عباده ومحبته لنفعهم ودفع الضر عنهم، فهو يحب من عباده أن يعرفوه ويحبُّوه ويخافوه ويتقوه ويطيعوه ويتقربوا إليه، ويحب أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوبَ غيرُه، وأنه قادر على مغفرة ذنوب عباده، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن عبدًا أذنب ذنبًا فقال: يا رب، إني فعلت ذنبًا فاغفر لي, فقال الله: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب, قد غفرت لعبدي ".
والعبد إذا خاف من مخلوق هرب منه وفرَّ إلى غيره، وأما من خاف من الله فما له من ملجأ يلجأ إليه، ولا مهربٍ يهرب إليه إلا هو فيهرب منه إليه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: " لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك "، وكان يقول: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".
أسأتُ ولم أُحسِنْ وجئتُك تائبًا
وأنَّى لعبدٍ عن مَوالِيهِ يَهرُبُ!
يُؤمِّل غفرانًا فإن خاب ظنُّه
فما أحدٌ منه على الأرضِ أخيبُ
وقوله تبارك وتعالى: " يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ".
فيه إشارة إلى أن ملكه لا يزيد بطاعة الخلق، ولو كانوا كلُّهم خِيَرةً برَرَة، قلوبهم على قلب أتقى رجلٍ منهم، ولا يَنقُص ملكه بمعصية العاصين، ولو كانوا كلُّهم كَفَرةً فجرة، قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم؛ فإنه سبحانه الغني بذاته عمن سواه، وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فملكه ملك كامل، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، على أي وجه كان.
وفيه دليل على أن الأصل في التقوى والفجور هي القلوب، فإذا برّ القلب واتقى برّت الجوارح، وإذا فجر القلب فجرت الجوارح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " التقوى ههنا " وأشار إلى صدره.
وقوله تبارك وتعالى: " يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوني فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ".
فيه كمالُ قدرة الله، وكمالُ ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنفد، ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأولين والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد، وفي ذلك حث الخلق على سؤاله، وإنزال حوائجهم به، قال رسول الله صلى الله عليه سلم: " يد الله مَلْأى، لا يَغيضُها نفقة، سحاء الليلَ والنهار، أفرأيتم ما أنفق ربكم منذ خلق السموات والأرض؛ فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه ".
وقوله تبارك وتعالى: " مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ " لتحقيق أن ما عنده لا ينقص البتّة؛ فإن البحر إذا غُمِسَ فيه إبرة ثم أخرجت لم تنقص من البحر بذلك شيئًا.
قال الله عز وجل: ( مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: " يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ".
أي أوفِّيكم جزاء أعمالكم في الآخرة " فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ " فالخير كلُّه فضلٌ من الله على عبده من غير استحقاق له، والشر كله من عند ابن آدم؛ من اتباع هوى نفسه كما قال عز وجل: ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) فالله سبحانه إذا أراد توفيقَ عبدٍ وهدايتَه أعانه ووفقه لطاعته، وكان ذلك فضلًا منه ورحمة، وإذا أراد خذلانَ عبدٍ وكَلَهُ إلى نفسه وخلَّى بينه وبينها، فأغواه الشيطان لغفلته عن ذكر الله، واتبع هواه وكان أمره فرطًا، وكان ذلك عدلًا من الله وحكمة؛ فإن الحجة قائمة على العبد بإنزال الكتاب وإرسال الرسول، فما بقِيَ لأحدٍ من الناس على الله حجة بعد الرسل، فقوله بعد هذا " فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه " أي من وجد خيرًا في الآخرة فليحمد الله على فضله، ومن وجد غير ذلك في الآخرة فلا يلومنّ إلا نفسه يوم لا تنفع ملامة ولا ندامة.
وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الجنة أنهم يحمدون الله على ما رزقهم من فضله فقال تعالى: ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) وقال عز وجل: ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ) وقال عز وجل: ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) وأخبر عن أهل النار أنهم يلومون أنفسهم ويمقتونها أشدَّ المقت فقال تعالى: ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) وقال جل وعلا: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ).
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..
0 التعليقات:
إرسال تعليق