تعديل

الشيخ محمد سعيدباصالح

الجمعة، 25 أغسطس 2017

خطبة ( وأذن في الناس بالحج )

(( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ))
٣|١٢|١٤٣٨هالموافق ٢٥|٨|٢٠١٧م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب/ محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، قال الله عز وجل: (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ )).
فللتوحيد أقيم هذا البيت منذ أول لحظة، عرّف اللهُ مكانه لإبراهيم عليه السلام وملّكه أمرَه ليقيمَه على هذا الأساس: (( أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا )) فهو بيت الله وحده دون سواه، ولِيطهّرَه للحجيج، والقائمين فيه للصلاة: (( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ )).
ثم أمر اللهُ إبراهيمَ عليه السلام باني البيت إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كُلِّفَ به أن يُؤذّن في الناس بالحج؛ وأن يدعوَهم إلى بيت الله الحرام، ووعده أن يلبّيَ الناسُ دعوتَه، فيتقاطرون على البيت من كل فج، رجالًا يسعَون على أقدامهم، وركبانًا (( عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ )) جَهَده السير فضَمَر من الجَهْد والجوع (( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ )).
وما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم عليه السلام إلى اليوم والغد، وما تزال أفئدةٌ من الناس تهوِي إلى البيت الحرام؛ وتَرِفُّ إلى رؤيته والطواف به، الغنيُّ القادر الذي يجد الظهرَ يركبه ووسيلةَ الركوب المختلفة تنقلُه؛ والفقيرُ المعدِمُ الذي لا يجد إلا قدميه، وعشراتُ الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فِجاج الأرض البعيدة تلبيةً لدعوة الله التي أذّن بها إبراهيم عليه السلام منذ آلاف الأعوام.
ويقف السياق عند بعض معالم الحج وغاياته: (( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ )).
والمنافع التي يشهدها الحجيج كثيرة، فالحجُّ موسمٌ ومؤتمَر، الحجُّ مَوسمُ تجارةٍ ومَوسمُ عبادة، والحجُّ مؤتمرُ اجتماعٍ وتعارف، ومؤتمرُ تنسيقٍ وتعاون، وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة، أصحابُ السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقًا رائجة، حيث تُجبَى إلى البلد الحرام ثمراتُ كلِّ شيء من أطراف الأرض؛ ويقدَم الحجيج من كل فج ومن كل قُطر، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرّق في أرجاء الأرض في شتى المواسم، يتجمع كلُّه في البلد الحرام في موسم واحد، فهو موسم تجارة ومعرَض نتاج؛ وسوقٌ عالمية تقام في كل عام.
وهو موسمُ عبادةٍ تصفو فيه الأرواح، وهي تستشعر قُربَها من الله في بيته الحرام، وهي تَرِفُّ حول هذا البيت وتستروِحُ الذكريات التي تحوم عليه وتَرِفُّ كالأطياف من قريب ومن بعيد.
طَيفُ إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يُودِعُ البيتَ فلِذةَ كبدِه إسماعيلَ وأمَّه، ويتوجه بقلبه الخافق الواجف إلى ربه (( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ )) وطَيفُ هاجَر، وهي تستروح الماءَ لنفسها ولطفلها الرضيعِ في تلك الحرّة المتلهّبة حول البيت، وهي تُهروِل بين الصفا والمروة وقد نَهَكَها العطش، وهدّها الجَهد، وأضناها الإشفاقُ على الطفل.
ثم ترجِع في الجولة السابعة وقد حطَمها اليأس لتجد النبعَ يتدفّق بين يدي الرضيع الوضيء، وإذا هي زمزم، يَنبوعُ الرحمة في صحراء اليأس والجدب.
وطَيفُ إبراهيم عليه السلام وهو يرى الرؤيا، فلا يتردد في التضحية بفلِذة كبِدِه، ويمضي في الطاعة المؤمنة إلى ذلك الأفق البعيد (( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)) فتجيبه الطاعةُ الراضيةُ في إسماعيل عليه السلام (( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ )) وإذا رحمةُ الله تتجلى في الفداء (( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )).
وطيف إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يرفعانِ القواعد من البيت في إنابةٍ وخشوعٍ ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )).
ثم تتواكبُ الأطيافُ والذكريات، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدرج في طفولته وصباه فوق هذا الثرى، حول هذا البيت، وهو يرفع الحجر الأسود بيديه الكريمتين فيضعُه موضعه ليطفئَ الفتنةَ التي كادت تنشب بين القبائل، وهو يصلي، وهو يطوف، وهو يخطب، وهو يعتكف، وإن خُطُواتِه عليه الصلاة والسلام لتنبضُ حيةً في الخاطر، وتتمثل شاخصة في الضمير، ويكاد الحاج هناك يلمحُها وهو مستغرقٌ في تلك الذكريات، وخُطُواتُ الحشدِ من صحابته الكرام وأطيافِهم تَرِفُّ وتَدِفُّ فوق هذا الثرى، حول ذلك البيت ، تكاد تسمعها الأذن، وتكاد تراها الأبصار!
والحج بعد ذلك كلِّه مؤتمرٌ جامعٌ للمسلمين قاطبة، مؤتمرٌ يجدون فيه أصلَهم العريقَ الضاربَ في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل (( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا )) ويجدون مِحورَهم الذي يشدُّهم جميعًا إليه: هذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعًا ويلتقُون عليها جميعًا، ويجدون رايتَهم التي يَفيئون إليها، رايةَ العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارقُ الأجناسِ والألوانِ والأوطان.
ويجدون قوّتَهم التي قد ينسَونها حينًا، قوةَ التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين، الملايينَ التي لا يقف لها أحد لو فاءَتْ إلى رايتِها الواحدة التي لا تتعدد، رايةِ العقيدة والتوحيد.
وهو مؤتمرٌ للتعارف والتشاورِ وتنسيقِ الخِطط وتوحيدِ القُوى، وتبادلِ المنافعِ والسلعِ والمعارفِ والتجارب، وتنظيمِ ذلك العالمِ الإسلامي الواحدِ الكاملِ المتكاملِ مرةً في كل عام، في ظل الله، بالقُربِ من بيت الله، وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة، والذكريات الغائبة والحاضرة، في أنسب مكان، وأنست جَو، وأنسبِ زمان.
فذلك إذ يقول الله سبحانه: (( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ )) كلُّ جيلٍ بحسب ظروفِه وحاجاتِه وتجاربِه ومقتضياتِه.
وذلك بعضُ ما أراده الله بالحج يوم أن فرضه على المسلمين، وأمرَ إبراهيم عليه السلام أن يؤذِّن به في الناس.
ويمضي السياق يشير إلى بعض مناسكِ الحج وشعائرهِ وأهدافِها (( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ )).
وهذه كنايةٌ عن نحر الذبائح في أيام العيد وأيام التشريق الثلاثة بعده. والنحرُ ذكرى لفداء إسماعيل عليه السلام فهو ذكرى لآيةٍ من آيات الله وطاعةٍ من طاعات عبدَيه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فوقَ ما هو صدقةٌ وقربى لله بإطعام الفقراء، وبهيمةُ الأنعام هي الإبل والبقر والغنم والمعز (( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ )).
والأمرُ بالأكل من الذبيحة يوم النحر هو أمر للإباحة أو الاستحباب، أما الأمرُ بإطعام البائس الفقير منها فهو أمر للوجوب، ولعل المقصود من أكل صاحبها منها أن يَشعُرَ الفقراء أنها طيبة كريمة.
ثم ليكمل الحجاج ما بقي عليهم من النُّسُك، بإحلالهم وخروجهم من إحرامهم، وذلك بإزالة ما تراكم مِن وسخ في أبدانهم، وقص أظفارهم، وحلق شعرهم، وليوفوا بما أوجبوه على أنفسهم من الحج والعمرة والهدايا، وليطوفوا بالبيت العتيق القديم، الذي أعتقه الله مِن تسلُّط الجبارين عليه، وهو الكعبة (( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ )).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيانِ الذنوب كما ينفِي الكيرُ خَبَثَ الحديد )) وقال صلى الله عليه وسلم: (( ما من مسلمٍ يُلبِّي إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من حجرٍ أو شجرٍ أو مدَرٍ حتى تنقطعَ الأرض من هاهنا وهاهنا )) وقال صلى الله عليه وسلم: (( العمرةُ إلى العمرة كفارة لما بينهما من الذنوب والخطايا، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة )) وقال صلى الله عليه وسلم: (( إن الله تعالى يباهي ملائكتَه عشيّةَ عرفةَ بأهلِ عرفةَ يقول: انظروا إلى عبادي أتَوني شُعْثًا غُبْرًا )) وقال صلى الله عليه وسلم: (( ما مِن يومٍ أكثرَ من أن يُعتقَ الله فيه عبدًا أو أمةً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء )).
أي؛ أيَّ شيءٍ أرادَ هؤلاء حيث تركوا أهلَهم وأوطانَهم وصرفوا أموالَهم وأتعبوا أبدانَهم أي؛ ما أرادوا إلا المغفرةَ والرضاء والقُربَ واللقاء, فيغفر لهم ويرضى عنهم ويجيب دعواتِهم ويحقق مرادَهم ..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More