حديث أم زرع
٢٦|٥|١٤٤٠هـالموافق ١|٢|٢٠١٩م
جامع الرحمة بالشحر
الخطيب / محمد بن سعيد باصالح
الخطبة الأولى
أيها المسلمون..
(عن عائشة رضي الله عنها قالت: جلست إحدى عشرةَ امرأةً، فتعاهدْنَ وتعاقدْنَ أن لا يكتُمن من أخبار أزواجهن شيئًا.
قالت الأولى: زوجي لحمُ جملٍ غَث) أي مهزول (على رأس جبلٍ وعر) أي لا يوصل إليه إلا بتعب ومشقة (لا سهلٍ فيرتقَى ولا سمينٍ فينتقَل) أي ليس بسمين يرغب الناس فيه ويتناقلونه إلى بيوتهم.
وصفَتْ زوجها بقلة الخير وسوء الخلق والكِبْر والتِيه على أهله.
(قالت الثانية: زوجي لا أبُثُّ خبره) أي لا أنشر خبره كيلا يفتضح (إني أخاف أن لا أذره) أي أخاف أن لا أتوقف عن الكلام لكثرة عيوبه (إن أذكره أذكر عُجَرَه وبُجَرَه) أي عيوبَه الباطنة وأسراره.
وصفت زوجها بكثرة العيوب الظاهرة والباطنة.
(قالت الثالثة: زوجي العَشَنَّق) وهو الشرس الطويل المفرط الطول الضعيف العقل فهو طويل بلا فائدة (إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق)
وصفت زوجها بالطول المفرط مع سوء الخلق وقلة النفع والفائدة.
(قالت الرابعة: زوجي كلَيل تهامة، لا حَرَّ ولا قُر، ولا مخافةَ ولا سآمة) أي لا حر ولا برد ولا خوف ولا ملل.
وصفت زوجها بحسن الخلق ودوام الأمن معه والسلامة من الأذى.
(قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهِد، وإن خرج أسِد، ولا يسأل عما عهِد) فشبَّهتْ زوجها بالفهد في لين الجانب؛ لأن الفهد لين المس كثير السكون، وبالأسد في الشجاعة وهو مع ذلك كريم لا يسأل عما ترك بالبيت من زاد وطعام.
وصفتْ زوجها باللين والكرم والتغافل وقلة العتاب مع الشجاعة المفرطة.
(قالت السادسة: زوجي إن أكل لَفّ) أي: ضم وخلط صنوف الطعام بعضها ببعض (وإن شرب اشتَف) أي استقصى ولم يترك شيئًا (وإن اضطجع التَفّ) أي ينام ناحيةً ملتفًّا بثوبه، لا يضاجعني ولا يتحدث معي (ولا يولج الكفَّ ليعلم البثَّ) أرادت لا يدخل يده في أموري ليعرف ما أكرهه ويصلحه -.
وصفت زوجها بكثرة الأكل والشرب والأنانية وقلة الشفقة والإهمال العاطفي.
(قالت السابعة: زوجي عياياء) من العِي وهو العجز والحُمْق (أو غياياء) وهو العاجز الذي لا يهتدي لأمر كأنه في ظلمة (طباقاء) وهو الأحمق الذي انطبقت عليه الأمور فلا يهتدي إلى الخروج منها (كل داءٍ له داء) أي العيوب المتفرقة في الناس مجتمعه فيه (شجَّكِ أو فلَّكِ، أو جمعَ كلًّا لكِ) والشج: الجرح في الرأس والوجه، والفَلّ: الكسر.
وصفت زوجها بالعجز والحمق وضعف البصيرة والعنف المفرط والقسوة.
(قالت الثامنة: زوجي المسُّ مسُّ أرنب، والريح ريح زَرنَبٍ) أي هو مثل الأرنب في اللين وحسن الخلق ومثل نبات الزرنب في طيب الرائحة.
وصفت زوجها بلين الجانب وحسن الخلق وطيب الرائحة والعناية بالنظافة.
(قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد) كنّتْ بارتفاع عمود خيمته عن شرفه وارتفاع بيته (عظيم الرماد) كنَّتْ بكثرة الرماد عن الكرم والجود وكثرة الضيوف الذين ينتابون بيته وكثرة ما يطبخ في داره من أنواع الأطعمة (طويل النجاد) كنّتْ بطول حمالة سيفه عن امتداد قامته وحسن منظره (قريب البيت من الناد) والنادي والمنتدى: مجلس القوم ومجتمعهم، كنّتْ بقرب بيته من مجلس القوم عن مكانته الاجتماعية وشهرته.
وصفت زوجها بطول القامة وجمال المنظر والفروسية والشجاعة والجود والكرم والشرف والمكانة الاجتماعية.
(قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك!) أرادت به تعظيمه والتعجب من أمره (مالك خير من ذلك) أي: هو فوق ما يوصف به من الجود والأخلاق الحسنة (له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح) أي أنه يتركها تبرك بفنائه لتكون معدة للضيفان فيطعمَهم من لحومها وألبانها، وقلَّ ما يسرِّحها لئلا يتأخر القِرى لبُعدها (إذا سمِعنَ صوت المـِزْهَر أيقَنَّ أنهن هوالِك) والمِـزهَر: آلة من آلات اللهو، والمقصود أن إبله قد اعتادت منه إكرام الضيفان بالنحر لهم وبسقيهم وإتيانهم بالمعازف، فإذا سمعتْ صوت المعازف أيقنتْ بالنحر.
وصفت زوجها بالجود والكرم وكثرة المال والأخلاق الحسنة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون..
(قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع، فما أبو زرع! أناس من حُلِيٍّ أُذُنَيَّ) أي حرّك أذني بما حلاهما به من القِرَطة (وملأ من شحمٍ عَضُدَيَّ) أي سمَّنَنِي بحسن التعهد (وبجَّحني فبجِحتْ إليَّ نفسي) أي عظَّمني فعظُمتُ عند نفسي (وجدني في أهل غُنَيمةٍ بشِق) أي في مشقة وفقر (فجعلني في أهل صهيلٍ، وأطيطٍ، ودائسٍ ومُنِقٍ) والدائس: الذي يدوس الطعام بعد الحصاد، والمنق: وهو الغربال. والمقصود أني كنت في قومٍ قليلي العدد والمال، فلم يأنف من فقر قومي وضعفهم، فنكحني ونفاني إلى قومه، وهم أهل خيل وإبل وزروع، والصهيل: صوت الخيل، والأطيط: صوت الإبل (فعنده أقول فلا أقبَّح) أي لا يُرد قولي ولا يقال لي: قبَّحَكِ الله (وأرقد فأتصبَّح) والتصبح: نوم الصُّبحة، وهو أن تنام بعدما تصبح، تريد أنها مخدومة مَكفِيَّة المؤنة لا تحتاج إلى البكور (وأشرب فأتقمَّح) أي أرفع رأسي عن الإناء للرِّي والاستغناء عن الشرب.
(أم أبي زرعٍ فما أم أبي زرع! عكومها رداح، وبيتها فساح) والعكوم: الأحمال والأعدال التي فيها الأمتعة، رداح: أي عظيمة ممتلئة، وبيتها فساح أي واسع.
وصفتْ أمَّ زوجها بالغنى والرفاهية والجود والسخاء والعناية بالبيت.
(ابنُ أبي زرعٍ فما ابن أبي زرع! مضجعه كمِسَلِّ شطبة)ٍ أي كشطبة مسلولة، والشطبة: ما ينزع من القضبان الدقاق من جريد النخل، ينسج منها الحُصُر أو هو كالسيف المسلول (ويشبعه ذراع الجفرة) وهي الماعز إذا بلغت أربعة أشهر وفصلت وأخذت في الرعي.
وصفتْ ابنَ زوجها بقلة الطعام والشراب وخفة الجسم وهو محمود عند العرب.
(بنت أبي زرعٍ، فما بنت أبي زرعٍ! طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها) أي تملأه بكثرة اللحم (وغيظ جارتها) أي يغيظ ضرتها ما ترى من جمالها وعفتها.
وصفتْ بنت زوجها بالسِّمن والرخاء والرفاهية والجمال والأخلاق والعفة.
(جاريةُ أبي زرعٍ، وما جارية أبي زرع! لا تبث حديثنا تبثيثًا) أي لا تنشر أخبار البيت وتذيعها (ولا تنقِّثُ ميرتنا تنقيثًا) أي لا تنقل طعامنا وتسرع فيه بالخيانة ولا تغفل عنه فيفسد (ولا تملأ بيتنا تعشيشًا) أي أنها تهتم بالبيت وترتبه ولا تترك القمامة مرمية هنا وهناك.
وصفتْ جارية زوجها بكتم السر والأمانة وحسن التدبير وتعهد الطعام والمحافظة عليه وترتيب البيت والعناية به والاهتمام بالنظافة.
ووصفتْ زوجها بالغنى وكثرة المال وجمال الأخلاق وحسن العشرة وكمال الأدب وتقدير المرأة وبر الوالدة والعناية بالأولاد..
(قالت: خرج أبو زرعٍ والأوطاب تمخض) والأوطاب جمع وطْب وهو سقاء اللبن، وتمخض: أي تحرك لاستخراج الزُبْد (فلقي امرأة معها ولدان كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلًا سريًا) أي شريفا (ركب شريًا) وهو الفرس الفائق المختار (وأخذ خطيًا) وهو الرمح (وأراح علي نَعَمًا ثريًا) أي كثيرة (وأعطاني من كل رائحةٍ زوجًا!) أي من كل ماشية صنفًا (وقال: كلي أم زرعٍ وميري أهلك).
وصفتْ زوجها الثاني بكثرة المال والمكانة الاجتماعية والشجاعة والجود لكنها لم تصفه بحسن الخلق..
(قالت: فلو جمعتُ كلَّ شيءٍ أعطانيه، ما بلغ أصغر آنية أبي زرع!)
فيه أن الناس تبحث عن الخلق أكثر مما تبحث عن المال.
(قالت عائشة: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كنتُ لك كأبي زرعٍ لأم زرعٍ)
بأبي أنت يا رسول وأمي!
بل أنت خير من أبي زرع ومن ألف أبي زرع.
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..